يعد فتح مكة لحظة فارقة في تاريخ المسلمين بل في تاريخ العالم، فمتى فتحت مكة؟ وما أسباب هذا الفتح؟ وما الدروس والعبر من فتح مكة؟ 1. يعد فتح مكة لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين بل في تاريخ الأرض والعالم، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفًا انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا، غير أن ما قبْل فتح مكة شيء وما بعده شيء آخر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا هجرة بعد الفتح». ويقول رب العالمين: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فتح مكة وسنن التغيير تميز فتح مكة بمجموعة من سنن التغيير والنصر والتمكين في الأرض، ونستخلصها في التالي: السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده منذ واحد وعشرين عامًا من أصل ثلاثة وعشرين هي عمر البعثة النبوية واللات والعزى ومناة وهبل تُعبد من دون الله داخل مكةالمكرمة! والبعض تمنى أن تفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين وهو ممكَّن في الأرض؛ لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسُّنَّة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].. والانتظار الطويل حتى يعلِّمنا جميعًا أنه سبحانه لا يعجل بعجلة عباده. السنة الثانية: التغيير والنصر والتمكين يأتي من حيث لا نحتسب أي أن المسلمين لو أرادوا أن يفتحوا مكة فلا شكَّ أنهم سيضعون أكثر من احتمال أو تصور لهذا الفتح، ولو أنهم وضعوا ألفًا من هذه الاحتمالات لجاء التغيير من طريق آخر.. وما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين. وقد يتساءل المرء: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصة البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضمَّ إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، فكانت القصة بين المسلمين وقريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر دخلٌ فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي أدى إلى الفتح كما سنرى. بنو بكر وقريش وخيانة العهد بتحليل منطقي فإنه إذا حدثت هذه المخالفة وأغارت بنو بكر على خزاعة قبل الحديبية، فما كان يحدث أيُّ نفع للمسلمين، إذ الحالة أن قبيلة مشركة اعتدت على قبيلة أخرى مشركة. وقد تكون هي نفس النتيجة أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة؛ فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.. وما حدث هو أن قريش أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهوُّر عجيب.. وهذا هو تدبير رب العالمين {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15، 16]. هجمت بنو بكر على خزاعة تلك التي لم تكن مستعدة للقتال، خاصة أن هناك صلح الحديبية، وفيه هدنة عشر سنوات، وقتلتْ من خزاعة الكثير من الرجال.. لم تجد خزاعة إلا أن تفرَّ إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي ومساكنها قريبة جدًّا منه، فخرجت رجالاً ونساءً وصبيانًا إلى مكةالمكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم، ومن ورائها بنو بكر تطاردها بالسلاح.. ووقع القتال داخل الحرم، أو قُلْ إنه داخل قريش، التي كثيرًا ما كانت تتشدق بأنها حامية الحُجَّاج والمعتمرين وحامية المنطقة بكاملها، وأنها التي توفِّر الأمان فيها. وقامت قريش في تهور عجيب وأعانت بني بكر وأمدَّتهم بالسلاح لحرب خزاعة، وهذا غير مبرَّر بالمرة لقريش، وليس هناك أي علاقة للمسلمين بالقصة؛ فهو تصرف غير مفهوم لكنه يضع أعيننا على شيء في غاية الأهمية، وهو أن الخيانة أمر متوقع من المشركين، قال تعالى في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100]. والعجب أن هذه الخيانة وقعت منهم والرسول صلى الله عليه وسلم ما زال على وفائه لهم بالعهد الذي بينه وبينهم، حتى إنه ردَّ من جاء من المدينةالمنورة مؤمنًا من مكة إلى قريش وفاءً ببنود المعاهدة، كما أعاد أبا بصير إلى مكة رغم خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير، وهو الأمر الذي لم تفعله قريش.. والمشكلة الكبيرة الأخرى هي أن بني بكر كانت تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر وتقبله، بل يقبله الجميع؛ فالقتال داخل مكة البلد الحرام، في داخل البيت الحرام، وهو أمر خطير؛ إذ الجميع كان يؤمِّن كل زائري هذه المنطقة.. ودخلت بنو بكر مكةالمكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، الأمر الذي أدهش جيش بني بكر نفسه من استمرار القتل في داخل الحرم، حتى نادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر، نادوا عليه وقالوا: يا نوفل، إلهك إلهك.. يعنون قوانين (اللات والعزى وهبل وغيرها) لم تشرع القتال داخل البيت الحرام.. هنا ردَّ عليهم قائدهم هذا بكلمة فاجرة، قال: لا إله اليوم، لا إله اليوم! ثم قال: يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟! فشجعهم على استمرار عملية القتل؛ لتحدث الجريمة الكبرى، وقريش لا تشاهد هذا الأمر فقط، بل تساعد عليه، فكان هذا خرقًا واضحًا للبند الثالث من بنود صلح الحديبية. خزاعة تستنجد بالرسول أسرعت خزاعة إلى المدينةالمنورة تستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وكان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سمع منه ما حدث قوله: «نصرت يا عمرو بن سالم». ولم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بغض النظر عن ملة قبيلة خزاعة مسلمة أو مشركة؛ فهناك حلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أي اعتداء.
السنة الثالثة: النصر يأتي من حيث يكره المسلمون أمر غريب جدًّا لكنه متكرر إلى الدرجة التي تجعله سُنَّة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، إنما يأتي من حيث يكره المسلمون.. كره المسلمون لقاء المشركين في بدر فجعل الله تعالى في باطنه النصر، يقول تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]. وكره المسلمون صلح الحديبية وقالوا: لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! وكان في باطنه الخير كله الخير. تُرى لماذا هذه السنة؟ ولماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ ولماذا لا يأتي النصر من حيث نحب؟ أو بالطريقة التي نريد؟ أو بالطريقة التي نخطِّط لها؟ هذا الكلام يتكرر كثيرًا في مراحل التاريخ؛ لأن الله يريد لنا ألا نُفتن بنصرنا، ونعتقد أن النصر جاء من حسن تدبيرنا، ودقة خطتنا، وبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا.. يجب ألا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي؛ لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل من حيث نكره؛ وليعترف الجميع أن الناصر هو الله، لذلك يقول الله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1].. النصرُ نصر الله، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين. ......يتبع العدد القادم