,انتهت الفترة الرئاسية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب منتصف الأربعاء الماضي وتم تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن خلفا له في مناخات غير طبيعية شهدتها العاصمة واشنطن بإعلان حالة الطوارئ والاستنفار الأمني الشديد في جميع الولايات الأمريكية. كانت تحرس العاصمة واشنطن 25 ألفا من الحرس الوطني والشرطة والخدمة السرية والدعم اللوجستي والاستخباراتي الذين انتشروا في جميع أركان العاصمة لتنصيب الرئيس بايدن وسط حالة من الهواجس والمخاوف والمحاذير الأمنية والتوقعات المحتملة من ردود أفعال الجماعات اليمينية المتطرفة من أنصار ترامب لعرقلة حفل التنصيب الذي تأهبت له 50 ولاية لمواجهة أي طارئ أو احتجاجات مسلحة محتملة وفي غضون 5 ساعات من مغادرة دونالد ترامب وعائلته الذي رفض تهنئة الرئيس المنتخب بايدن كما رفض حضور حفل التنصيب وهو أمر غير مسبوق منذ 150 عاما وهذا ما يجعله رابع رئيس في تاريخ الولايات المتحدة منذ أندرو جونسون في 1869م. تركة ثقيلة كان البيت الأبيض جاهزاً لاستقبال جو بايدن وعائلته وموظفيه وكان الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن قد وصل إلى الكونغرس إيذانا بتوليه مقاليد الحكم لأربع سنوات برفقة نائبته كاميلا هاريس وزوجته ونائب الرئيس المنتهية ولايته مايك بنس والرؤساء السابقين بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وأوباما مع عقيلتهم وبعض أعضاء الكونغرس حيث تم تنصيب جو بايدن ليكون الرئيس ال 46 للولايات المتحدةالأمريكية لاستلام قيادة البلد في ظروف استثنائية ومعقدة واضطرابات داخلية وارتفاع العنف السياسي الذي تصاعد منذ اقتحام مبنى الكبيتول في 6 يناير الماضي من قبل جماعات اليمين المتطرف التي يقودها ترامب ما يعني أن هناك تصدعات وانقسامات مجتمعية حادة وخطيرة على مستقبل البلد قد تنذر بالتشظي والتفكك الاجتماعي ولعل هذا ما حمل فريق بايدن أن يرفع شعارا لحفل التنصيب أمريكا متحدة رغم الشعور أن هناك انقساما مجتمعيا حقيقيا ينخر الحريات الديمقراطية التي تبدو أساساتها هشة للغاية. لقد خلف ترامب تركة ثقيلة في طريق الإدارة الجديدة كان آخرها بأن ختم عهده المشؤوم بقرارات وصفت بالسخيفة بتصنيف حركة أنصار الله ضمن قوائم الارهاب ذلك القرار الذي قوبل بردود أفعال دولية وإقليمية ومنظمات حقوقية وإنسانية. فيما أرجع مراقبون بأن ذلك ثمنا لعملية التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي كان للسعودية الدور الأبرز للدفع في هذا المسعى كما هو أيضا مقابل صفقات الأسلحة المهولة للإمارات والسعودية لسفك دماء اليمنيين في المجازر الجماعية البشعة التي تستهدف السكان المدنيين الأبرياء طيلة سنوات العدوان. مراجعة القرارات الإدارة الأمريكية الجديدة بدأت في إطلاق وعودها في مراجعة القرارات التي اتخذها ترامب قبيل انتهاء فترة ولايته بتصنيف جماعة الحوثي في قائمة الإرهاب حيث قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية الجمعة 22 يناير/ كانون الثاني 2021 م : " إن الوزارة بدأت في مراجعة تصنيف جماعة الحوثي في اليمن منظمة إرهابية وتعمل بأسرع ما يمكن لإنهاء العملية واتخاذ قرار بذلك"فيما قال أنطوني بلينكين مرشح الرئيس جو بايدن لمنصب وزير الخارجية إن واشنطن ستراجع التصنيف الذي يخشى مسؤولو الأممالمتحدة وجماعات الإغاثة من أن يؤثرعلى حركة التجارة في اليمن الذي يشهد مجاعة واسعة النطاق. وكان فريق جو بايدن قد أكد أنه ستتم إعادة النظر فوراً بقرار تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية فيما أصدرت وزارة المالية الخاصة بحكومة ترامب إعفاءات لمنظمات إغاثية وسط مخاوف من تفاقم الأزمة في البلد الغارق بالحرب. وبينما رحبت السعودية والإمارات وحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي التابع للإمارات بقرار تصنيف الحوثيين في قوائم الارهاب دعا نواب أمريكيون بارزون إلى التراجع سريعا عن هذه الخطوة كما دعا المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك الولايات المتحدة إلى التراجع عن هذه الخطوة. ترميم العلاقات أمام الإدارة الأمريكية الجديدة تحديات كبيرة داخلية وخارجية وجميعها تتطلب ترميم العلاقات الدولية وخصوصا ما يتعلق بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية والنأي عن سياسات ترامب الذي سيمثل للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ يوم 8 فبراير القادم حيث أشار مدير ديوان الرئيس الجديد "رون كلين " إلى أن الرئيس المنتخب لن يكتفي بالتراجع عن سياسات ترامب وتبعاتها السيئة بل سيعمل على دفع البلاد إلى الأمام" فيما يرى مراقبون أن تجاوز هذه التحديات تقف على رأس أولوياتها رأب الصدع السياسي وهو تقريبا ما دعا إليه بايدن لزعماء الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين وقد أفادت تقارير إعلامية بوجود جملة من الأوامر الرئاسية يعتزم الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن إصدارها فور دخوله البيت الأبيض من بينها إعادة النظر في قرارات الإدارة الأمريكية السابقة. وتؤكد التقارير أن بايدن سيلغي حظر السفر إلى أمريكا ويعيد الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس للتغير المناخي وإلغاء حظر الدخول المثير للجدل المفروض على القادمين إلى الولايات المتحدة من عدد من الدول ويتوقع أيضا أن يركز جهوده على لم شمل الأطفال المعزولين عن أوليائهم على الحدود وإقرار إجبارية ارتداء الكمامات كما تضيف التقارير بأن هذه الخطوات ما هي إلا جزء من خطته للأيام العشر الأولى من توليه السلطة ويتوقع أن يعرض الرئيس الجديد على البرلمان مشروع قانون الهجرة وخطة قيمتها 1.9 مليار دولار لإنعاش الاقتصاد المتضرر من وباء فيروس كورونا كما تعهدت إدارة بايدن بتوفير 100 مليون لقاح ضد مرض كوفيد -19 خلال 100 يوم من توليها السلطة واصفة عملية التلقيح الحالية بأنها "فشل ذريع". تصويب السياسة الخارجية المصادر الاعلامية تشير أيضا إلى أن الرئيس الامريكي جو بايدن يضع نصب عينيه تصويب السياسة الخارجية وجعلها في رأس سلّم أولوياته وخصوصاً في ساحات التوتر والصراع متعهّداً بإعادة الاعتبار إلى بلاده في الساحة الدولية بعد ما أصابها من التراجع والانكفاء في بعض الساحات الدولية وخصوصاً في أوروبا فيما يبدو أن السياسات الداخلية ستبقى محكومة بأغلبية الحزب الديموقراطي في الكونغرس في ظل وعود بايدن خصومه الجمهوريين بالشراكة والتعاون لدعم سياساته المتعددة ما يعني أنه سيضطر إلى تقديم تنازلات للوفاء بتعهّداته بأنه سيولي عموم الشعب الأمريكي اهتمامه وتلبية مصالحه وليس نحو نصف الناخبين الذين صوتوا له فقط. تجسيد سياسات الحرب الباردة خارطة التوازنات السياسية الجديدة في المشهد الأمريكي حرجة للغاية في ظل الانقسام الحاصل ويبدو أن هامش المناورة يضيق نسبيا لدى الرئيس الجديد على الرغم من توفر عامل حسم قرارات مجلس الشيوخ عبر نائب الرئيس كامالا هاريس أما المسائل التي تتقاطع مع الأمن القومي والسياسة الخارجية فليس هناك مفاجآت بالنسبة للرئيس الجديد نظراً إلى سجله العميق في تجسيد سياسات الحرب الباردة وهو ما عرف عنه خلال فترة تسلمه منصب نائب الرئيس في عهد أوباما ويرى سياسيون بأن ملامح سياسات بايدن الخارجية يمكن استقراؤها بالعودة إلى ولاية الرئيس أوباما والبناء عليها وإلى ما واكبها من تعديلات ظرفية على الاستراتيجية الأمريكية وخصوصاً فيما يتعلق في احتواء صعود الصين وتجميد أيّ صراع جانبي يبعد مسافة الهدف الاستراتيجي وعدم الاصطدام مع روسيا في سوريا مع الاحتفاظ بالهدف المعلن لتغيير النظام في دمشق وبناء على مثل هذه التحليلات فإنه من الجائز الاستنتاج أنّ بايدن بإدارته الجديدة في السياسة والأمن القومي سيستكمل سياسات الرئيس السابق أوباما مع تعديله في بعض الجزئيات الضرورية وإحياء مشاريع الفوضى والتقسيم كعنوان لا يشذ عنه. محاصرة الصين الفريق السياسي الذي اختاره بايدن لتنفيذ سياساته المتعددة الذي يميل في غالبيتها إلى تأييد العودة إلى الاتفاق النووي والتعاون المشترك مع الصين وخصوصاً في مجالات الصحة العامة والاقتصاد والمناخ كما يبدو ان سياسة أمريكا قد ترتكز على التحوّل نحو آسيا لمحاصرة الصين وتمدد نفوذها الإقليمي والعالمي وهو ما بات واضحا بأنها تتصدر اهتمامات الاستراتيجية الأمريكية بدرجة أعلى بعض الشيء من تلك الموجهة نحو روسيا ربما لحمل الأخيرة على ممارسة ضغوط من جانبها على حليفتها بكين والانضمام إلى مسار مفاوضات جديدة للحد من الأسلحة الاستراتيجية والنووية التي لم تصادق عليها الصين. وتتعاظم أهميّة ملف الصين بالنسبة للإدارة الجديدة طرديا مع حجم الأذى الذي ألحقه الرئيس ترامب في سياساته المتعددة نحو الصينوروسيا ودول حلف الناتو على وجه الخصوص كما أنه يشكل مدخلاً مرحباً به من دول الاتحاد الأوروبي التي قلّصت مديات تعاونها مع الصين في السنوات الأخيرة وإثارتها ملفي هونغ كونغ وتايوان وانجرار بريطانيا بشدة أكبر نحو الأهداف الأمريكية في آسيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. الاتفاق النووي الملف الأكثر حساسية الذي يواجه إدارة بايدن هو الاتفاق النووي مع إيران وتعهّداته منذ انتهاء الحملة الانتخابية معلنا عن نيته العودة إلى الاتفاق. هذا الملف الذي تصدرته تصريحات متعددة لأعضاء فريقه الوزاري الذي طرح شروطاً جديدة من دون التقيد بإنهاء أو رفع العقوبات المفروضة على طهران وفي الوقت ذاته كانت طهران قد ردت على انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي المبرم 2015م بإعلانها رفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20% الأمر الذي قد يصب في باب المناورة السياسية لتحسين شروط التفاوض والضغط على الأوروبيين لممارسة نفوذهم لدى واشنطن بهدف إلغاء العقوبات على إيران فيما يعاني الاتحاد الأوروبي هو الآخر من انشقاقات وخلافات حادة في ضوء الأزمة المالية بين دول اوروبا الشرقية (سابقاً) ومركز الاتحاد في بروكسل من ناحية أخرى وبروز ألمانيا في المرتبة الأولى اقتصاديا وهو ما ولد احتقاناً جديداً لدى فرنسا ودول أخرى ولم تفلح السياسات الاقتصادية السابقة لبروكسل في احتواء تردي الأوضاع المعيشية التي قد تحفّز دولاً أخرى على الاستقلال بقرارها عن الاتحاد. القضايا الخلافية لا يعتبر خروج بريطانيا من الاتحاد نهاية المطاف بالنسبة إلى باقي الدول أما فيما يتعلق بحلف الناتو فقد تعهّد الرئيس المنتخب بايدن بعدم التقيد بقرار سلفه الرئيس ترامب سحب قوات أمريكية من ألمانيا ونشرها في بولندا ودول أخرى وإعادتها إلى سابق عهدها وفي مستوى موازٍ قلّصت بعض دول الحلف تواجد قواتها العسكرية في الشرق الأوسط تحت قيادة أميركا ومن المستبعد عودتها إلى العمل تحت العباءة الأمريكية في ظل ما تعانيه من متاعب اقتصادية وجائحة كورونا حيث ثمة تحليلات تذهب إلى أن سياسة بايدن تهدف إلى استصدار مهام جديدة لحلف الناتو لمحاصرة روسيا وتقييد نفوذها وتغلغلها السياسي والاقتصادي في أوروبا ولعل هذا الجانب قد يشكل حالة من الإحباط الشديدة بين صفوف مؤيدي الرئيس المنتخب في الحزب الديموقراطي لا سيما التيار الأشد ليبرالية في القضايا الخلافية بين عناصر هذا التيار وتوجهات جو بايدن التي برزت أثناء الحرب على العراق وغزوه ولاحقاً سوريا في عهد الرئيس أوباما عندما كان نائبا له وما يحدث اليوم في العراق من تصدعات وتوترات أمنية هي نتاج لهذه السياسات الخاطئة في احتلال بلد ونهب ثرواته وإنشاء على جغرافيته القواعد العسكرية الأمريكية وتبدو أمام الإدارة الأمريكية فرصا كبيرة لترميم التصدعات الكونية وإنهاء الحروب التي تقودها وتديرها في منطقة الشرق الأوسط وأنهاء التحالفات العسكرية الجديدة الأمريكية العربية الإسرائيلية. فكل المعطيات تشير إلى أنه ليس بمقدور واشنطن كبح التطورات الكونية المتسارعة التي بدأت تشكل بطريقة مختلفة في الوقت الذي مازالت فيه أمريكا متخشبة في أحلام مفاهيمها التقليدية بفرض عناصر القوة مع تصاعد أزماتها وحجم ديونها ومشاكلها المجتمعية التي تنذر بتفجر صراعات داخلية طاحنة بذورها الجنينية باتت أكثر وضوحا في مشاهد العنف السياسي الذي يتصاعد أفقيا ورأسيا مالم تغير من سياساتها فإن القادم سينعكس عليها بالمزيد من تفاقم أزماتها.