شهدت منطقة البلقان على مدى تاريخها صراعا دمويا حادا منذ انفصالها عن الإمبراطوية العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر. ومع بدايات انهيار الاتحاد اليوغوسلافي، انفصلت جمهورية مقدونيا عام 1991، وأعلنت استقلالها، متخذة من سكوبيا عاصمة لها. وتضم مقدونيا حوالي 30% من المسلمين بين سكانها، والذين يتنوعون بين العرق الألباني والتركي والرومي والبوشناقي. ويعيش المسلمون في مقدونيا في ظروف صعبة، ويتعرضون للتضييق وهدم المساجد، بل ويتهمون دائما بالإرهاب من قبل الأغلبية السلافية الأرثوذكسية، على الرغم من أنهم لم يتعرضوا لأي كنيسة، مثلما لاقت مساجدهم من إغلاق وهدم. تلك الاتهامات امتدت حتى للدراسات التي تجرى حولهم، كان آخرها رسالة الماجستير المقدمة من الباحث أتاناس بانوفسكي بعنوان "انتشار التطرف الإسلامي في جمهورية مقدونيا"، التي نوقشت بمدرسة الدراسات العلياالبحرية، بولاية كاليفورنيا الأمريكية، والتي أشرف عليها البروفيسور مايكل فريمان في ديسمبر 2011. وعلى الرغم مما تحتويه هذه الدراسة من مغالطات واتهامات بحق حركات إسلامية معروف عنها عدم انتهاجها العنف، وصلت إلى حد اعتبار الاهتمام بالقضية الفلسطينية مؤشرا على ازدياد التطرف، فإننا نعرض تلك الدراسة من باب الاطلاع على الرؤى الغربية التي قد تساهم في صناعة صورة ذهنية مشوهة عن بعض الأقليات أو الحركات الإسلامية. قامت هذه الأطروحة بمحاولة تحديد أسباب انتشار ما وصفته بالتطرف الإسلامي، باعتباره تهديدا محتملا لجمهورية مقدونيا. وتمثلت أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة في أن التغيرات السياسية والاقتصادية والقانونية الكبرى التي شهدتها مقدونيا، قدمت أرضا خصبة للأيديولوجيات الإسلامية غير التقليدية. وتشير النتائجأيضا إلى أن المسلمين في مقدونيا هم الأكثر عرضة للتجنيد من قبل هؤلاء "المتشددين"، وهناك محاولات دائمة من "المتطرفين الإسلاميين" المحليين لحشد أكبر عدد من الأنصار. ويرى الباحث أن ظهور ما يصفها "بالأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة" في مقدونيا ليست رد فعل على العلمانية والحداثة، كما أنها لا تدافع عن الدين. وبالتالي، يمكن تصنيف أنشطتها كشكل من أشكال الأعمال الإرهابية، ومن ثم قدم الباحث توصياته حول السياسات التي يجب على الدولة اتخاذها كتدابير لمكافحة الإرهاب. الأيديولوجيات المتطرفة بغض النظر عن الانتماء إلى معتقدات دينية بعينها، فإن هناك بعض الخصائص المشتركة بين الأيديولوجيات المتطرفة. فالأيديولوجية المتطرفة هي ظاهرة تتميز بالسلطوية، والأحادية والشمولية، والجماعية، والطوباوية، والتزمت، وتميل هذه النوعية من الأيديولوجيات غالبا إلى الترويج لفكر المؤامرة، وشيطنة الأعداء. وقد استعرض الباحث بعض أشكال التيارات الإسلامية التي يعتبرها متطرفة، ومن أهمها الإسلاموية والوهابية والسلفية. وأشار إلى أن التشدد الموجود في الإسلاموية ليس ناتجا عن خصائص كامنة في الإسلام نفسه، بل هو نتيجة فهم خاطئ للإسلام. أما الوهابية، فقد اعتبرها الباحث من أهم الأيديولوجيات المتطرفة، وقد أولاها اهتماما كبيرا في دراسته. وأخيرا جاء مفهوم السلفية، مشيرا إلى أن السلفيين يدافعون عن التطبيق الصارم للشريعة، ويرفضون بالتالي فكرة الديمقراطية الغربية والقوانين الوضعية، حسبما يرى الباحث. المسلمون والعنف في منطقة البلقان تعد البلقان من أكثر المناطق تعقيدا من الناحية الدينية واللغوية والعرقية في العالم. وفي حين يرى البعض في هذه المنطقة مركزا للتنافس بين الحضارات، يعتبرها البعض الآخر حلقة الوصل بين الثقافات المختلفة. وصل الإسلام إلى البلقان على يد العثمانيين الذين حكموا المنطقة لمدة خمسة قرون. وفي هذه الفترة تعايشت الأديان المختلفة بفضل تسامح المسلمين. وانضم كثير من غير المسلمين إلى الإسلام –على حد قول الباحث- تهربا من دفع الجزية للدولة العثمانية. وبعد حرب البلقان الأولى، انهزم العثمانيون وغادروا البلقان. ويرى الباحث أنه خلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء المواجهة بين المسلمين وخصومهم في البلقان، سنحت الفرصة لتسلل التأثير الإسلامي الراديكالي. وبفضل الحاج أمين الحسيني مفتي القدس الذي تعاون مع النازيين أثناء الحرب، تم تجنيد المسلمين في البلقان للقتال إلى جانب الألمان- بحسب الباحث- وأنشئت في البوسنة شعبة حربية، عرفت باسم "Handzar" ، أو الخنجر. وتطورت هذه الشعبة حتى أصبحت تسمى "Kama" في منتصف عام 1994. وبعد انهيار الدولة اليوغوسلافية، أصبحت منطقة البلقان نقطة جذب رئيسية للتشدد الإسلامي، ونشوب الصراعات العرقية. ففي البوسنة والهرسك، انضم المجاهدون الأجانب الذين حاربوا مع البوسنيين إلى الجيش البوسني. وفي ألبانيا، تسللت منظمات إرهابية مثل القاعدة، والجبهة الإسلامية للإنقاذ، والمجموعة الإسلامية المسلحة (GIA) ، وحركة الجهاد الإسلامي المصري (EIJ) في البلاد، واستخدمت المؤسسات الخيرية لجمع وتوزيع الأموال. ووفقا لمصادر مختلفة، فإنه خلال النزاع في مقدونيا، ضم جيش التحرير الوطني في صفوفه حوالي 150 من المجاهدين من ألبانيا والبوسنة وتركيا والمملكة العربية السعودية، وأفغانستان ، وجميعهم شاركوا في الصراع. الوهابية والسلفية يذكر الباحث أنه عقب تفكك يوغوسلافيا، واندلاع الحروب في البوسنة وكوسوفو، شارك المجاهدون من كل أنحاء العالم في هذه الحروب. وبعد انتهاء الحروب ظل التأثير الوهابي السعودي مستمرا على حد قوله. ومن هنا بدأت وسائل الإعلام وكذلك الخبراء الدوليون في لفت الانتباه إلى تزايد التطرف الاسلامي في العاصمة المقدونية، حيث ينتمي أغلب المسلمين في هذه المنطقة إلى العرق الألباني. ويتهم الباحث المشيخة الإسلامية المقدونية المعروفة باسم الاتحاد الإسلامي IVZ بكونها ذات تمويل وهابي، الأمر الذي أدى إلى سيطرة الفكر الوهابي على مساجد عدة في العاصمة. حتى أن رئيس المشيخة نفسه سليمان أفندي رجبي، قد طلب رسميا في سبتمبر 2010، من السلطات السياسية والمجتمع الدولي المساعدة في التعامل مع الجماعات الوهابية، ودعا إلى اتخاذ تدابير لوقف انتشار الراديكالية الإسلامية في مقدونيا. ويرصد الباحث بعض التأثيرات الناجمة عما أسماه بانتشار التشدد الوهابي في مقدونيا، ومن بين هذه التأثيرات ظهور التعصب تجاه باقي المسلمين، ورفض الاعتراف بالمذاهب الأخرى كالصوفية والشيعية. ويكفي التذكير بأن الفرقة البكتاشية الصوفية اكتسبت شعبية كبيرة في ظل الحكم العثماني، ومن أهم مؤسساتها تكية "حرابتي" التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وهي موجودة بمنطقة تيتوفو ومقدونيا. وفي أبريل 2006، دخل جناة مجهولون إلى ساحة التكية في تيتوفو ومزقوا صورة الزعيم البكتاشي حاجي ديدي رشيد. وفي ديسمبر 2010، اندلعت النار في التكية، ونسب زعيم الطائفة البكتاشية أعمال العنف هذه إلى جماعات وهابية متطرفة. كما أشار الباحث إلى سيطرة بعض الجماعات الإرهابية على عدة مناطق مقدونية خلال عام 2001، حيث ظهرت جماعات مسلحة تابعة للقاعدة، مما أثار مخاوف المجتمع الدولي حينها. الأمر الذي دعا خبراء في مكافحة الارهاب من الاستخبارات الفرنسية ومركز الأمن الأوروبي، إلى الكشف عن وجود ما يصل إلى مائة إرهابي في مقدونيا. كما ادعى بعض الخبراء وجود صلات مالية بين تنظيم القاعدة وهؤلاء الإرهابيين، واتهموا مفتي مقدونيا في ذلك الوقت بدعمه التطرف، من خلال تعينه أئمة وهابيين في المساجد. الوهابيون في المجال العام وإلى جانب الحوادث التي وقعت في بعض المساجد، فإن أتباع الحركة الوهابية لم يترددوا في إبراز النشاط في الأماكن العامة، واستدل الباحث على ذلك بقيادة بعض المظاهرات المنددة بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في عام 2006، معتبرا إياها دليل على انتشار النفوذ الوهابي، رغم أن أغلب العواصم العربية والأوروبية شهدت وقتها مثل هذه التنديدات!. ويستمر الباحث في إثباته انتشار التطرف الإسلامي، متخذا هذه المرة من الاهتمام بالقضية الفلسطينية مؤشرا على ازدياد هذا التطرف. فقد شهدت السنوات الخيرة اهتماما من مسلمي مقدونيا بالقضية الفلسطينية، وظهرت عدة مطالبات بوقف العنف على غزة في يناير 2009، كما كشفت القوات البحرية الإسرائيلية عن وجود ثلاثة أفراد مقدونيين بين فريق سفينة النجاة المتجهة إلى غزة، والتي استولت عليها السلطات الإسرائيلية. كما شهدت المساجد أيضا ساحات حرب -على حد قول الباحث- بين الوهابيين والمسلمين العاديين في مقدونيا، حيث سيطرت الجماعات الوهابية على عدة مساجد وطردت أئمتها. ولم تسلم أيضا المنظمات غير الحكومية من امتداد النفوذ الوهابي، فقد قامت بعض هذه المنظمات بجمع تبرعات باسم الإنسانية دون اعتماد رسمي، ووجهت الاتهامات لبعض الجمعيات بالاشتراك في أنشطة مالية غير مشروعة. ومن بين المنظمات غير الحكومية التي أشار إليها الباحث ووصفها بالتطرف: منظمة Kalaya Shkup، ومنظمة رازبودي Razbudi، و منتدى الشباب المسلم الذي تأسس في سكوبي عام 2000 بهدف "تعزيز وغرس القيم الإنسانية الإسلامية والعالمية، وحماية الشباب من الانحرافات وتوعيتهم"، ونجح المنتدى في اجتذاب الجمهور، بل وقد دعا المفكر الإسلامي طارق رمضان وشقيقه هاني لحضور بعضا فعالياته، وهو ما اعتبره الباحث توجها نحو الراديكالية الإسلامية! هناك أيضا جماعة الشباب الإسلامي التي نشأت بعد الحرب في البوسنة والهرسك، وتضم في عضويتها المسلمين المحليين الذين قاتلوا بجانب مسلمي البوسنة، وقد صنفها الباحث ضمن الجماعات الراديكالية المتطرفة واتهمها بتلقي تمويل من القاعدة. ثم انتقل الباحث إلى الجمعيات الخيرية وهيئات الإغاثة التي اعتبرها امتدادا للنفوذ الوهابي، وعلى رأسها هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، ومؤسسة الحرمين الإسلامية، ومنظمة Bamiresia المقدونية. ولم يغفل كذلك استغلال الوهابيين لشبكة الانترنت والوسائل التكنولوجية، مشيرا إلى انتشار أشرطة الفيديو والتسجيلات الصوتية لكبار علماء الوهابية، وكذلك من خلال موقع التوحيد الالكتروني. التبليغ وحركة جولن بعد استعراض أهم ملامح النفوذ الوهابي في مقدونيا، انتقل الكاتب إلى الحديث عن جماعة التبليغ والدعوة التي وصفها بنوع من المرونة مقارنة بالفكر الوهابي. وتعود نشأة الجماعة في مقدونيا إلى عام 1994 على يد إسماعيل سيف الله، ويوجد للجماعة عدة فروع في تيتوفو، وغيرها من المدن. وحتى عام 2005 لم يكن لهذا الجماعة أي نشاط ملحوظ، إلا أنه ما لبثت أن وصلت مجموعات من أفراد الجماعة الباكستانيين إلى مطار سكوبي، ولاقت هذه المجموعات ترحيبا من الزعماء الإسلاميين المحليين. وقد انتشرت هذه المجموعات في عدة قرى مأهولة بالسكان "التوربيش" Torbeshوهو اسم يستخدم للإشارة إلى المقدونيين الذين تحولوا إلى الإسلام - وهناك بدأوا في العمل لنشر الدعوة. ومن أهم خصائص جماعة التبليغ والدعوة عدم وجود رقابة مركزية، والعمل بأسلوب منظم فريد. وقد أثار مشهد انتشار رجال ملتحين ونساء متشحات بالسواد شكوك بعض الجهات الرسمية حول التمويل، خاصة أن بعض دول الخليج العربي تقوم بتقديم منح دراسية للشباب المقدوني المسلم، مما قد يثير المخاوف حول محاولات لفرض النهج الوهابي على سكان هذه القرى، من وجهة نظر الباحث. أما الأمر المثير للدهشة في أطروحة بانوفسكي، فهو إدراجه حركة جولن الإصلاحية ضمن المنظمات التي ربما تنتهج التطرف وتسعى لنشره في مقدونيا، على الرغم مما هو معروف عن هذه الحركة من تبني فكرة التربية من خلال مدارس مخصصة لذلك، لا تتناول بين مناهجها الموضوعات الدينية. ولكن الباحث شكك في توجهات هذه المدارس في مقدونيا بسبب جو السرية الذي تفرضه الحركة على أنشطتها ومعلوماتها، إضافة إلى مقابلته لأحد الطلاب المقدونيين في هذه المدارس، الذي ذكر له أنه اختير من بين مجموعة أخرى متميزة من الطلاب لحضور أنشطة لا صفية بعد انتهاء الدوام الدراسي، وهو ما اعتبره الباحث نوعا من الأنشطة السرية التي ربما تخفي أنشطة أخرى أكثر تطرفا! وعلى الرغم مما تحتويه هذه الدراسة من مغالطات واتهامات بحق حركات إسلامية معروف عنها عدم انتهاجها العنف، فإن أخطر ما في الدراسة تقديمها توصيات بخصوص مواجهة ما أسماه بانوفسكي بالتطرف الإسلامي في مقدونيا. ومن أهم هذه التوصيات: * مواجهة الفكر الراديكالي بنشر الأفكار المناهضة للراديكالية في أوساط المسلمين. * مكافحة الجريمة المنظمة. * تطبيق مفاهيم العلوم الاجتماعية، وأهمها: * أسلوب تحليل الشبكات الاجتماعية: للتعرف على هياكل هذه الجماعات المتطرفة. * أسلوب التحليل البنيوي المتعمق: عبر استخدام استراتيجيات محددة للتأثير على التشكيل الاجتماعي للمنظمات المتطرفة، عن طريق توليد الوعي داخل المجتمعات المستهدفة، وتمكين الجماعات البديلة، والحد من العزلة، والطعن في الخرافات، وتفتيت التعاطف بين الأعضاء. * وأخيرا يقترح بانوفسكي اختراق الشبكات الإلكترونية التي يستخدمها أعضاء هذه الجماعات عن طريق برامج الاختراق المختلفة.