لا بد من العودة للبداية وتنظيف الغبار من العقول، والنظر مجدداً في تعريف الإرهاب والصورة النمطية التي تكوَّنت في الأذهان عن الإرهابي، والتي أحدثت خلطاً رهيباً في المفاهيم وأنتجت جزءاً كبيراً من التيه الذي ظللنا فيه بفعل المصطلحات التغريرية والترويج المضلّل عبر المنابر الإعلامية.. الصورة النمطية «للإرهابي» التي تقفز للأذهان هي لمن عرفوا «بالمجاهدين الأفغان» بلباسهم الأفغاني وذقونهم الطويلة. ومن الأهمية بمكان أن نحسم الأمر هنا وفقاً للأسس والحقائق التاريخية والسياسية التالية: أفغانستان من البلدان التي شملتها «اللعبة العظيمة» التي كانت قائمة منذ قرون خلت بين القوى العظمى، وبدأت علاقتها بتلك اللعبة تحديداً بين البريطانيين زمن احتلالهم للهند، وبين القياصرة الروس آنذاك، وكلٌّ يسعى لتقليص قدرة الآخر على توسيع نفوذه في اتجاه المناطق التي يسيطر عليها، ثم تمَّ تنشيط اللعبة مرة أخرى عقب الحرب العالمية الثانية عند بزوغ «الحرب الباردة»، ولكن هذه المرة كان اللعب بين الاتحاد السوفييتي والولاياتالمتحدة الأميركية. المطَّلعون على أحداث نهاية السبعينات في أفغانستان يدركون أن الأميركيين «جرجروا» السوفييت إلى أفغانستان من خلال عملائهم من «مشايخ الدين» الإقطاعيين الذين تضرروا من إصلاحات طموحة للسلطة الأفغانية، التي نفذتها بإصرار ومسَّت عمق مصالح أولئك المشايخ. ثم عملت الولاياتالمتحدة على إسناد انقلاب لأحد عملاء السي آي أيه الأفغان ليطيح برئيس الجمهورية ويعدمه ويتولى السلطة بدلاً عنه. أدرك السوفييت وقتها أن الأميركيين من خلال الحكومة الجديدة وتوجهاتها وعلاقاتها المعروفة سيصبحون في بلد جار يشترك معه الاتحاد السوفييتي بحدود طولها ألف وستمائة كيلومتر تقريباً. السياسة الأميركية في محاصرة أعدائها «المفترضين» أينما كانوا في العالم لم تختلف وقتئذ عمَّا هو الحال عليه اليوم، ولم تختلف أيضاً سياسات السوفييت حينئذ والروس اليوم في حرصهم على إبقاء أعدائهم أيضاً بعيدين عن حدود بلدهم. ويمكن تشبيه الوضع اليوم بالتهديدات الأميركية المحيطة بروسيا من خلال إيجاد قواعد عسكرية لها في بلدان مجاورة لروسيا، وآخر الأمثلة أوكرانيا، ولعل السيناريو تكرر هذه المرة أيضاً عندما أقدم بوتين قبل شهرين على احتلال جزيرة القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا لمنع الأميركيين (والناتو) من الاقتراب أكثر من روسيا. هذا أيضاً ما حدث نهاية السبعينات حين قرر السوفييت «وعلى مضض» إرسال جنودهم إلى أفغانستان. ما يجب معرفته أنه لم يكن صحيحاً على الإطلاق وجود أية حكومة أفغانية «شيوعية» أو حتى حزب شيوعي حاكم وقتها في أفغانستان. غير أنه تم الترويج لذلك بقوة باعتباره وسيلة محفزة لتنفيذ الخطة «ب» الأميركية، وهي تجييش المسلمين وإرسالهم لأفغانستان لدفع «خطر الشيوعيين»، ومن خلال تجنيد أغلب الدول الإسلامية في هذا المشروع. ومع ذلك، وبالرغم من أن الاحتلال السوفييتي لأفغانستان تم بتدبير من الأميركيين، لكنه يظل «احتلالاً» ويعطي مشروعية كاملة لمقاومته، طبقاً للدساتير السماوية والأرضية ولا غبار على ذلك. ما نريد أن نخلص إليه من خلال استعراض تلك الأحداث أنه بغض النظر عن كثير من الحقائق التي سنكشفها تباعاً، هو أن المقاتلين العرب والمسلمين الذين ذهبوا لأفغانستان بدءاً من نهاية السبعينات وخلال الوجود العسكري السوفييتي فيها لا يليق بأن نعتبرهم إرهابيين فقط لأنهم قاتلوا السوفييت في أفغانستان. يجب أن ننظر للأمر بذات الطريقة التي ننظر بها لأية قوى مقاومة ذات «مشروعية» تقاتل لأجل «دحر احتلال وعدوان» أجنبي على دولة وشعب. «المجاهدون الأفغان/ العرب» هم بالضبط كمثل المقاتلين الأميركيين الذين ذهبوا لمساعدة الأوروبيين لتحرير بلدانهم من الاحتلال النازي، والمقاتلين اليمنيين الذين ذهبوا للمشاركة في صدّ عدوان إيران على العراق «لواء العروبة»، والذاهبين لإسناد المقاومة في لبنان وفلسطين، وسائر من يقاتل لدحر المعتدي المحتل. هذا الأمر مهم جداً لإزالة الالتباس في المفاهيم والأحكام التي نصدرها على هؤلاء وعلى الإرهابيين، سواء بازدرائهم أو بالتعاطف معهم. وسنشرح لاحقاً كيف أثر ذلك الخلط وتسبب في الوضع الذي نحن فيه. كيف أن التعامل مع هؤلاء على أنهم إرهابيون يحيلهم لإرهابيين حقيقيين، وكيف يتسبَّب التعاطف معهم على أساس أنهم مجاهدون في غض الطرف عن أفعالهم اللاحقة لقتالهم في أفغانستان، وإن كانت الأفعال اللاحقة إرهابية بامتياز. إذن، فالمقاوم لأغراض مشروعة يظل مقاوماً ما لم يرتكب أفعالاً لاحقة تجرِّمه، والإرهابي الذي ينفذ أعمالاً لا مشروعة وإجرامية وشيطانية يظل إرهابياً وإن أطال الدقنة والغنة والإقامة في أفغانستان! الجزء الثاني بعد التمييز الواجب بين من يعرفون ب»المجاهدين الأفغان» والإرهابيين، على أن من ذهب لأفغانستان زمن السوفييت لدحرهم لا يعد إرهابياً، تأسيساً على ذلك فقط، وإنما قد يصبح إرهابياً إن أقترف أفعالاً لاحقة تجعله إرهابياً. فالحكم يجب أن يكون موجهاً على الأفعال وليس على الأشخاص. بعد هذا يلزم التنبيه إلى ضرورة تتبع الأنماط لمعرفة الكثير من بواطن الأمور ورفع القدرة على التنبؤ، تماماً كما يحدث مع الأرقام والعلاقات الرياضية التي تقوم بينها، فبعد كشف أنماطها يمكن التنبؤ بالنتائج بدقة مفرطة. ولأجل إماطة اللثام عن كثير من أسرار الإرهاب، سنعود لتتبُّع أهم الأنماط التاريخية للإرهاب التي لها علاقة وثيقة جداً بإرهاب اليوم. الحشاشون هي جماعة تنتمي للإسماعيلية النزارية، انشقت عن الفاطميين، أسسها حسن الصباح قبل ألف عام تقريباً. فبعد أن قضى حياته متنقلاً في أماكن عدة، وأغلبها وأطولها في مصر، حيث غادرها بعد خلافات قامت بينه وبين قادة وساسة الدولة الفاطمية وقتئذ، اضطر للعودة إلى مسقط رأسه في إيران، وعندما بلغه أنه ملاحق ويراد البطش به، اختار مكاناً نائياً قصياً في منطقة جبلية وعرة من إيران، وبدأ دعوته «الدينية» وجمع له أتباعاً ثم انتقل إلى قلعة منيعة جداً في ذات المنطقة تسمى قلعة «لمؤوت» أقام فيها قرابة أربعة عقود ولم يغادرها قط حتى مات. اشتهر الرجل بالذكاء وكان له باع في العلوم الفلكية وخبير في مستحضرات الأعشاب. خلال تلك العقود جمع له أتباعاً كثراً في إطار توحيد الطائفة الإسماعيلية (النزارية). توصَّل حسن الصباح لمركَّب فعال جداً من أعشاب مخدرة كان يعتقد وقتئذ أنها نبات «الحشيش»، ودأب على تقديمها لأتباعه مخلوطة في الطعام والشراب. وتتحدث المصادر التاريخية عن أساليب متنوعة استخدمها للسيطرة التامة على أتباعه، لكنها أجمعت كلها على غرس عقيدة جذابة في الأتباع، وتدريبهم تدريباً قتاليا عالياً، وإعطائهم العقاقير المخدرة (دون علمهم) والتي كانت تحدث أثراً فعالاً في العقول فتسهل له السيطرة التامة عليهم وإيهامهم وهم مخدرون بأن طاعته تكفل لهم الجنة.. وقد ذكر بعض المؤرخين أنهم كانوا يُعطون جرعة قوية من المخدر تفقدهم الوعي ليستفيقوا تدريجياً وهم في حدائق خضراء مزهرة نضرة، تحيط بهم النساء الفاتنات اللاتي يسقينهم خمراً ويُقال لهم إن هذا هو موقعهم في الجنة بما أخلصوا. وعندما يستفيقون يكونون قد أُعيدوا إلى المكان الأول نفسه فيتوهمون أنها رؤيا من الله جل في علاه تؤكد أنهم ضمنوا الجنة. النتيجة النهائية كانت «الطاعة حتى الموت»، إذ كان الرجل منهم يقذف بنفسه من أعلى قلعة لمؤوت بمجرد إشارة من «إمامهم» وشيخهم حسن الصباح. ثم بعد «رؤيا» الجنة، كان يطلق أتباعه المخلصين حد الموت لتنفيذ أعماله القذرة في اغتيال الساسة والوزراء والقادة، الأعمال التي ينفذونها دون أدنى تردد، مهما كانت النتيجة، وهي في الغالب أنهم بعد جرمهم يقتلون. اتسعت رقعة نفوذ الصباح في المناطق الإيرانية، وشكَّل من أتباعه فرقة أسميت ب»الفدائيين» الذين لا يأبهون بالموت في سبيل تحقيق أهداف شيخهم. حيث كان هؤلاء الفدائيون يُلقون الرعب في قلوب الحكّام والأمراء المعادين لهم، وتمكنوا من اغتيال العديد من الشخصيات المهمة جداً في ذلك الوقت، مثل الوزير السلجوقي نظام الملك، والخليفة العباسي المسترشد والراشد، وملك بيت المقدس كونراد. وبات الحشاشون كما عرفوا وقتئذ يشكلون رعباً عظيماً لدى الولاة والقادة. ثم عقدوا اتفاقاً مع قائد صليبي في الشام ليمنحهم عدة قلاع ويسمح لهم بالتوسع هناك تحت حمايته وبمقابل أموال يدفعونها له لاستمرار تلك الحماية.. استمر وجود الحشاشين زهاء مائتي عام وذاع صيتهم، وكانوا حقاً فرقة الاغتيال والموت في عصرهم.. وفي حالات أخرى كانت تعليمات «شيخهم» تقتضي الاكتفاء بوضع خنجر مسموم ورسالة بجانب رأس الشخصية القيادية المستهدفة أثناء نومه، كإنذار لحمله على فعل أو ترك أمر ما، كما حدث مع القائد صلاح الدين الأيوبي الذي اضطر أن ينسحب من محاصرة قلاع لهم استجابة لتهديدهم بقتله بذات الطريقة.. وهذا يؤكد مهاراتهم العالية في البلوغ لأماكن خاصة بالمستهدفين يفترض أنها تكون تحت حراسة شديدة.. ثم تنوعت أهدافهم بين القتل والابتزاز والحصول على الأموال من الولاة والقادة حتى لا يتعرضوا للقتل. جاءت نهايتهم في الشام على يد الظاهر بيبرز، وفي إيران اقتحم قلعتهم الحصينة المغول وأحرقوها بعد مجهود شاق للمغول بذلوه للانتقام لاغتيال الحشاشين لأحد قادتهم.. الجدير ذكره أن الكلمة اللاتينية nAssassi التي تعني «القاتل المحترف المأجور» جاءت في الأصل من الكلمة العربية «حشاشين».. ويرد ذكر الحشاشين في مراجع تاريخية أوروبية عديدة لرحالة أوربيين أو صليبيين عاشوا في المناطق العربية وقتئذ وعادوا لأوطانهم. نخلص من هذا إلى أن فدائيي الحشاشين لم يكونوا جيشاً بمعنى الكلمة، فلم تكن أهدافهم السيطرة على الأراضي والمناطق، وإنما عصابة لتنفيذ الأعمال القذرة والشنيعة كالاغتيالات وزرع الرعب الشديد في قلوب خصومهم لحملهم على الإذعان لمطالبهم وشروطهم.. وسنأتي في جزء لاحق على مقارنة أعمالهم بأعمال إرهابيي اليوم، واقتداء الأخيرين بالسابقين من حيث اللجوء لأماكن نائية قصية وعرة يتخذونها قاعدة ينطلقون منها لتنفيذ أعمالهم الإجرامية، ثم الهروب والانسحاب، إن استطاعوا، والعودة إليها.