مع وصول الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي لسدة الحكم ، في 21 فبراير 2012م ، كرئيس توافقي أجمعت عليه كل القوى والأطراف السياسية الداخلية ، والأطراف الخارجية الراعية للانتقال السياسي في اليمن ، المحكوم بالمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ، بدأت الأحداث والحلقات المثيرة للمشهد السياسي اليمني ، وبدأت تفاعلات الأطراف الداخلية والخارجية في الشأن السياسي اليمني في التبلور ؛ لتشكل أحد أهم مسلسلات الدراما السياسية اليمنية في القرن الحادي والعشرين . احتوى المشهد السياسي اليمني على كل مكونات الدراما الحديثة ، من مخرجين ومؤلفين لا يظهرون ولا يعرفهم الشعب اليمني ، وقوى وشخصيات ظهرت في جزء من الأحداث واختفت في أخرى ، وأطراف ظهرت فجأة وبقوة خلافا للمعطيات المشاهدة أمامنا، وللمتغيرات الأولية للمشهد السياسي الدرامي ، ما جعلنا نتوقع نتائج مناقضة تماما للنتائج النهائية للأحداث ، وشخصيات وقوى كلما خرجت من مأزق دخلت آخر ، ومرت بمنعطفات ظننا- نحن المشاهدين - أنها نهايتها ، بيد أن المخرج والمؤلف أرادا الاحتفاظ لها بدور رئيس في المسلسل فنجت بأعجوبة .
ونحن نشاهد أحداث هذا المسلسل السياسي ، ونشاهد أيضا صور الدمار والقتل ، ونرى أن كل تلك الهالات والقوى قد انتهت ، وأن الجماهير قد غادرت ، ولم يبق إلا المخرج ؛ ليقرب عدسة الكاميرا ، فنشاهد البطل وقد حصل على مبتغاه ، ولو كان شيئا تافها ، لنتساءل هل كل هذا الدمار والخسارة في الأموال والدماء ؟ من أجل هذا الشيء التافه !!
السؤال المهم الذي يبحث جل اليمنيين عن إجابته ، هو هل ما يجري في بلدهم من أحداث حقيقة أم تمثيل ؟ أي هل يمكن اعتبار نتائج الصراع السياسي والعسكري الراهن طبيعية تعكس حقيقة توازن قوة أطراف الصراع على الأرض ؟ أم أن كل ما يحدث ، وما ينجم عنه معد سلفا ، لا علاقة له بعوامل القوة المشاهدة ، وتؤدي فيه أطراف الصراع أدوارا لا تصنعها وليس لها أي تأثير ذاتي على مخرجاتها.
تتفرد الأحداث السياسية والعسكرية في المشهد اليمني الراهن ، بظاهرة غريبة أضحت ملازمة لها ، تتمثل في تناقض نتائجها ومخرجاتها ، مع توقعات مسبقة قائمة على معطيات ظاهرة لتوازن القوى على مسرح الصراع ، إذ أننا غالبا ما نلاحظ أن الطرف الأكثر توقعا في الفوز في حدث ما ، هو الطرف الذي يهزم ، والتحدي الذي نتوقع بناء على المعطيات الملموسة أن يربحه طرف ما ، هو الذي يخفق فيه ، وإذا ما عدنا بذاكرتنا للوراء قليلا ، إلى أحداث احتلال الحوثيين عمران ثم صنعاء ، سنجد كيف كانت معطيات الواقع تشير إلى انتصار الرئيس هادي وهزيمة الحوثيين ، فهادي يمتلك الشرعية الداخلية والخارجية ، والقوى المؤيدة لثورة 11 فبراير 2011م ، والجيش بينما الحوثيون لا يمتلكون أي شرعية داخلية أو خارجية ، ولا حاضنة شعبية كبيرة ، ولا جيش أو أسلحة توازي الدولة ، وعسكا لكل تلك المعطيات استطاع الحوثيون إسقاط عمران ثم صنعاء ، والوصول لقصر الرئيس هادي ووضعه تحت الإقامة الجبرية ، الأمر الذي جعلنا نشكك بل نجزم بأن ما جرى لا يعكس تفاعلا حقيقا لقدرات القوى على الأرض ، وأن الأحداث لا تجري بعفوية ، بل لخطة مسبقة ، الهدف الغير مباشر منها ، هو أن من يمتلك القوة لا يمتلك النصر .
عندما نتابع تصرفات وردود أفعال القوى والأطراف السياسية ، والسياسة التي تنتهجها والمواقف والأفكار التي تتبناها ، تجاه ما يجري في المشهد السياسي اليمني ، نجد أنها تتنافى مع ما يجب ، وفقا لمؤشرات الواقع الصحيحة ، وتتناقض مع مصالحها ناهيك عن المصلحة الوطنية ، مما يزيدنا يقينا ، أن تلكم القوى والأطراف لا تمتلك قرارها ، فقط هي تؤدي أدوارا حسب تعاليم المخرج ، فهل من المنطق والمصلحة الذاتية للحركة الحوثية أن تتبنى سياسة تثبت من خلالها عبر إعلامها وتصريحات قادتها علاقتها بإيران ؟ مستعدية بذلك دول الجوار مبررة لها تدخلها العسكري في اليمن ، وهل من المنطق أيضا أن يتم إسقاط محافظة عمران بيد جماعة مسلحة ويقتل أبرز ضباط الدولة فيها ؟ ويخرج الرئيس هادي أمام العالم ويقول : عادت عمران لحضن الدولة ، وهل من الحصافة أن يسمح لمليشيات احتلال عاصمة الدولة والسيطرة على مؤسساتها نكاية بفصيل سياسي ؟ وهل من العقل أن تظل رئاسة الجمهورية والحكومة في الرياض لأكثر من عامين مع إدعاء تحرير أكثر من 80% من الأراضي اليمنية من المليشيات الانقلابية ؟ وهل من مصلحة الشرعية نقل البنك إلى عدن وقطع الرواتب لتثبت فشلها ؟ وهل من صالح الرئيس هادي والحكومة الشرعية تحرير محافظات الجنوب وتسليمها لقوى تعمل ضد الرئيس والشرعية ؟ بينما القوى التي تؤيد الرئيس وشرعيته تقصى في كل شيء.
مهما بدت المعطيات الداخلية والخارجية في المشهد السياسي اليمني ظاهرة بقوة ، فإنه من الصعب بل من المستحيل تفسيرها والتكهن بمآلاتها المستقبلية ، ومن غير الصحيح أن نتنبأ بمستقبل الكيانات السياسية اليمنية ومدى تحقيقها لأهدافها ، انطلاقا من شرعيتها القانونية ، أو من خلال مرتكزاتها الداخلية ، وما تملكه من حاضنة شعبية أو زخم إعلامي أو قوة مادية أو معنوية ، بل يمكننا التنبؤ بتتبع الخيوط الخارجية الخفية ، الواقفة وراء تلك الكيانات ، دون الاستغراب من أي هدف تعلنه حتى لو كان ساذجا ومثيرا للاستهجان.
اتمنى من المهتمين بالشأن اليمني ، ألا يستهلكوا أقلامهم ويفقدوا مصداقيتهم ، في خضم تناقضات المشهد السياسي اليمني ، بأن يبتعدوا عن الحكم والتعصب لرأي أو خيار معين ، ويجعلوا كل الخيارات واردة ، واتمنى من أولئك الذين ما زالوا يقدسون الشخصيات الكرتونية لأطراف الصراع ، معتقدين أن ما يجري هو من صناعتها وعبقريتها ، أن يدركوا أن ما يجري هو مسلسل درامي مؤلف مسبقا ، مهمة أطراف الصراع فيه تأدية الأدوار المنوطة بها بإتقان منقطع النظير ، كما أن عليهم أن يعوا أن هناك أهدافا خفية لا يعرفها سوى المؤلف والمخرج والراعي الرسمي للمسلسل ، أبسطها وأهمها إشغال المشاهد أي الشعب اليمني وإضاعة وقته من أن يفهم أو يفكر أو يتحرك.