من الناحية الجيوسياسية تبعد مدينة الحديدة عن العاصمة صنعاء 226 كم ، وتعتبر مدينة استراتيجية هامة من جوانب عدة ، فهي تحوي الميناء الأكبر في اليمن ومطار دولي وعسكري ، اضافة إلى ما يقارب 3 مليون نسمة . أما من الناحية الإنسانية فتعتبر احدى أكبر الأزمات الإنسانية في اليمن منذ سنوات ، فلقد كانت ولا تزال اكبر بؤرة لتفشي أمراض خطرة عدة كالكوليرا والتيفوئيد وغير ذلك من الأوبئة القاتلة لأنحاء البلاد نتيجة لإنهيار النظام الصحي في المدينة والنقص الحاد في الغذاء والدواء والمياة الصالحة للشرب . ومع ذلك استهدف التحالف العربي أسوار المدينة إيذانًا ببدء هجوم شامل عليها في محاولة لنزع مينائها الإستراتيجي من أيدي جماعة ( انصار الله ) ،مما استدعى إصدار تحذيرات دولية واسعة من عواقب أزمة انسانية كارثية لهذة المعركة على مستوى اليمن بشكل عام والحديدة بشكل خاص . ومع أن أزمة الحديدة تقدم نموذج مصغر للأزمة اليمنية ككل من الناحيتين السياسة والإنسانية ، نجد أيضاً أن وضعها الحالي يؤثر سلبًا على كافة نواحي الحياة في اليمن ذلك لأن مينائها يعتبر شريان حياة وبقاء وحيد للشعب اليمني حيث تأتي من خلاله ما يقارب 80% من المعونات الإنسانية ومقومات الحياة الضرورية لبلد يعتمد فقط على الإستيراد . وما يجعل الوضع اكثر خطورة حاضرًا ومستقبلًا انعدام الحل السلمي والفشل المتكرر في الوصول إليه، من خلال تصلب الأطراف في مواقفها، المتمثلة في تمسك ( أنصار الله) بالحديدة كمبدأ سيادي ومصيري ، مقابل سعي التحالف في السيطرة عليها بأي ثمن ،و إنهاء تهريب السلاح عبر الميناء بحسب مصادره ، رغم أنه _ الميناء _ وكما أسلفنا منفذ لإستمرارية الحياة في اليمن . السؤال الأكبر هنا .. هل وضعت أطراف الصراع الأبعاد الإنسانية للمعركة ، الإمارات التي لها الدور الرئيسي فيها تتحدث مرارًا عن عمليات إغاثه واسعة ترافق العمليات العسكرية ، وبأن العملية العسكرية ستكون خاطفة ، وهذا على ما يبدو صحيحًا ، في مناطق تبدو شبه خالية من الإزدحام السكاني كأطراف المدينة إلا أن الوضع الميداني يختلف جُملًا وتفصيلا في الداخل نتيجة الإزدحام السكاني والعمراني ، وإجمالا ذلك لايُجدي حينما لا تكون أهداف الإغاثة استراتيجية وطويلة المدى وليست لأهداف سياسية . ما يجري بسكان الحديدة هو شتات وتهجير قسري، نتيجة للمعارك في قرى ومديريات المحافظة والتي وصلت مؤخرًا إلى أسوار المدينة مركز المحافظة مما دفع بالأهالي الفرار بحثًا عن الأمن فمنهم من يتجه نحو عدن التي تشهد إنفلات أمني من وقت إلى أخر ، و طريق الوصول إليها محفوف بالمخاطر بدأً من الحديدة ، فقد يتعرضون في طريقهم لنيران الحرب أو منعهم من الوصول إلى عدن حيث سبق وأن منعت كثير من الأسر من الدخول للمدينة . وتسلك فرق أخرى الطريق نحو صنعاء ، إلا أن وضعها في غاية الصعوبة فإرتفاع تكاليف المعيشة يفوق الإمكانات البسيطة لهم ، ويستغل عدد من ملاك العقارات استغلال الأعداد المتزايدة للنازحين في رفع تكاليف الإيجارات ، متجاهلين الأوضاع الإقتصادية المدمرة في البلاد نتيجة حرب وحصار منذ حوالي 4 أعوام . وأخرون يتجهون نحو عمران ، حجة ، المحويت ، إب وغيرها من المناطق التي لا تشهد اشتباكات ميدانية بإستثناء الضربات الجوية ، وتغيب الإحصائيات الرسمية حول أعداد النازحين من الحديدة لسبب أن موجات النزوح مستمرة ، ويتحدث مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن تقديم العون لحوالي 80 الف نازح فقط ، وهذا يعني أن الكثير لم تصل لهم منظمات الإغاثة الدولية . و لا ينتهي مسلسل معاناتهم لحظة وصولهم إلى محطات النزوح الجديدة فبجانب أنهم تركوا منازلهم التي قد تتعرض للتدمير أو النهب ، كذلك يستقبلون أصنافا اخرى من المعاناة ، حيث انعدام الرعاية من الجهات الخاصة ويؤدي ذلك إلى فقدهم وسائل الحياة الكريمة من سكن وغذاء وتعليم وغيرها من مقومات الحياة الضرورية . هذا لمن أستطاع المغادرة ، ولكن يبقي الكثيرون في منازلهم تحت أخطر التهديدات الأمنية المباشرة الممتثلة في تعرضهم للقتل واستخدامهم درواعًا بشرية والحصار الشديد الذي يقلل من فرص البحث عن مصادر الدخل اليومي الذي يمكنهم من استمرارية حياتهم ، و انقطاع الخدمات الأساسية الضرورية كالرعاية الصحية والإمداد الغدائي والمياة ووسائل التواصل مع العالم الخارجي . وبالنظر للحالة الإقتصادية لليمنيين عامةً ولسكان مدينة الحديدة على وجه الخصوص نجد أنهم يعتمدون على الإقتصاد الحر الغير قائم على استراتيجية الإدخار المفيدة في مثل هذة الأزمات ، فغالبية المواطنين هناك يعتمدون على الدخل اليومي سواء في السوق التجارية المحلية من خلال تبادل السلع والمنتجات أو في عمليات الصيد والزراعة . ويتبين للمتابع أن هذة الركائز الإقتصادية الثلاثة تتعرض للخطر فلأسواق العامة تتعرض لمخاطر أمنية عندما تستخدم كمربعات صراع ومزارع المواطنين التي تستخدم حاليًا مناطق معارك ومخازن أسلحة وكذلك السواحل التي يتحرك فيها كثير من أبناء الحديدة في عملية الصيد التي هي ابرز مقومات الحياة لديهم . لا يبدو جليًا أن الأطراف المتصارعة وضعت حلول لحماية المدنيين بقدر ما وضعت من خطط عسكرية تستهدف المدينة ، حيث يتوجب على الطرف المبادر في المعركة أن يوفر الملاذ الآمن للمدنيين سواء بفتح الطرق الآمنة أو كذلك الملاجئ الآمنة بعيدًا عن مناطق الصراع ، باقامة مخيمات مؤقتة خارج المدينة مع توفير فرص حياة مستقرة للنازحين . أما الموقف الإنساني الدولي تجاه ما يجري الحديدة فهو متفاوت من وقت لأخر سواء من حيث توفير إلحماية للمدنيين أو تسهيل وصول المساعدات الإغاثية عبر الميناء ، بسبب تقاطع الملف الإنساني والسياسي في اليمن مع المصالح الدولية ، وبالتالي تتغير مستويات الإدانة بخصوص سلوكيات انتهاك القانون الدولي الإنساني في اليمن وفقًا لمبدئ المصلحة الخاصة . أما داخليًا نجد غالبية الجماعات والكيانات المتصارعة لا تحترم حقوق المدنيين في وضع الحرب ولا تعير القانون الدولي الإنساني أدنى مسئولية بقدر ما تسعى لتحقيق نصر عسكري ولو كلف ذلك حياة الأبرياء ولعل المُؤشرات التي تدل على ذلك كثيرة في اليمن حيث قُتِلَ الكثير من الأطفال والنساء والعُزل في أوساط المدنيين سواء بقصف جوي أو من مصادر نيران المتصارعين على الأرض . تغيب لدينا المنظمات الوطنية الفاعلة في المجال الإنساني التي يمكن أن يعول عليها المجتمع في ظل انهيار الدولة لتوفير الحماية الإنسانية للأفراد والجماعات الذين قد يتعرضون للمخاطر ، حتى وإن وجدت مثل هذة المنظمات تكون مسيسة ولها أهداف ايدلوجية موجهة لصالح الفرد أو الجماعة السياسية وليس لصالح المجتمع بشكل عام وفيما لو نفذت مهام انسانية يكون ذلك بهدف الحصول على مكسب سياسي وفي نهاية المطاف تؤثر هذة السلوكيات على العمل الإنساني وتطيل من أمد الأزمة . إلى جانب ذلك، اليمنيون في واقع الأمر لا يمتلكون دولة بمؤسسات حديثة ومتطورة منذ ما قبل الحرب ، وهذا ما زاد الأزمة تعقيدًا وعنفًا ، ونقصد هنا بالمؤسسات التي يمكن أن تقوم بواجبات حماية المواطنين في حالات الكوارث والحروب أو حتى في حالة سقوط هرم السلطة التنفيذية في البلاد ، كما نرمي بذلك إلى الدولة القوية التي أعدت مسبقًا خطط الحماية الإنسانية والأمن الغذائي والصحي وبنت ملاجئ آمنة ومخازن استراتيجية تحسبًا لوقوع كوارث محتملة في المستقبل ، هذا الذي لا يملكه اليمنيون على الإطلاق مما عرضهم لأسوء الظروف الإنسانية في العالم . ولذلك يتوجب تعزيز وتشديد الرقابة الدولية على الوضع الإنساني في اليمن وتوفير فرص الحماية للمدنيين والعمل على بحث الحلول السلمية لأزمة الحديدةواليمن بشكل عام ، بأعتبار أن أي إنتهاك لحقوق الإنسان في اليمن هو انتهاك لقيم الإنسانية في العالم . هذة الرقابة يجب أن تؤدي في النهاية إلى محاسبة الجناة و تعمل على منع أي تصرفات مشابهة في المستقبل وتمنع كذلك مرتكبي الجرائم من الإستمرار في انتهاكاتهم القوانين الدولية الإنسانية وإجبارهم على إحترام المواثيق الدولية ذات الصلة . ولأن اليمن تفتقر إلى أبسط مقومات الحماية الإنسانية يجب على الجهات المختصة بناء وتوفير الملاجئ الآمنة ، فعلى سبيل المثال ، أن تقوم دول التحالف أو منظمات الأممالمتحدة بإنشاء مخيمات نروح بالقرب من مدينة الحديدة وتوفر فيها كافة الخدمات ، هذا يسهل على النازحين مشقة البحث عن أماكن آمنه في أقاصي البلاد والتعرض لمخاطر مختلفة كما أوردنا سابقًا . في الختام كُلما غُيب العقل عن الحل السلمي والتفاوضي في اليمن ازدادت الأزمة الأنسانية اتساعًا وتعقيدًا واستمر الأبرياء في دفع تكاليف الحرب . ربيع الكلي 16/7/2018