أنهم تحكمهم الأبدية، الأبدية في كل شيء في السياسة والدين والعائلة والعادات وكل شيء. هذه الأبدية الشمولية أوصلتْ البلاد والشعوب للعدَمية الفكرية. الشعوب اليوم - وبعد الكثير من النكسات والخيبات والاستعمار واستبداد الحكام والسلطة الدينية والقمع وثقافة العنف - أصبحتْ مُستهلِكة نفسها وأفكارها التي انتهتْ مدة صلاحيتها ولم تعد تسمع ولا ترى في الشعوب والحضارات الأخرى أي جاذب ودافع للنهوض. الحُرّية وبعد الثورة الفرنسية كانت هدفاً للمجتمعات خاصّةً التي تُهاجر بحثاً عنها، لكن أصبح الشعب اليمني شمالًا، بفعل كلّ ما سبق ذِكره، تُهاجر وتُعادي الحرية وتَنشد أبدية أفكارها التي حملَتْها من مجتمع هي هربتْ منه بحثاً عن الحياة. ورغم أننا لا نستطيع تحييد الحروب عن المشهد والأسباب لوصولنا إلى هنا، إلاّ أننا وبالمقابل لا نستطيع تحميل كل أسباب فشلهم على شمّاعة الحروب متوارين وراء نظرية المؤامرة. لان المجتمع اليمني اليوم منذُ فترة حكم الولاية الحوثيه الشيعية الهاشميه ومن عقود من حكم الأئمة الزيدية الهاشمية وأقولها بحزن، لا تبتكر شيئاً لهذا العالم، تستهتلك وتجترّ نفسها بأفكار بمسمّيات كثيرة وتاريخ مُخجِل تفخر بإعادة نشره، وإسفاف ما بعده إسفاف ورفض مُعادي للتغيير بعد أن أوصلوا الحكّام بسياستهم العالمية تلك لشعوبهم لتكون أحلامهم تأمين قوت يومهم والسعي للحصول على الحد الأدنى من أساسيات الحياة، فتمسّكوا أكثر بماضيهم وتاريخهم وأفكارهم. اليمن اليوم يعيش فترة مخاض عسير، ونحن ننتظر المولود كيفما كان لتنتهي معه حقبة، وتبدأَ أُخرى على أمل أن تكون حقبة العمل للتنويريين وأصحاب المشاريع الفكرية والثقافية والأقتصادية كما التي نشأَتْ على أساسها مجتمعات الانفتاح والتطور والأختراعات في العالم ومنذ زمن. هذه المجتمعات المتقدّمة، ما زالت حتى اليوم تخوض معارك فكرية وثقافية، فلا أبديات لديها تتمسّك بها؛ كل شيء قابل للتغيير سواء أفكار أو أشخاص أو تماثيل ترمز لتاريخ، أعتذرت وما زالت تعتذر عنه. فكل الأمم تقريباً لها تاريخ مخجِل من الحروب والإستعباد والاقتتالات، ولكنها إمّا أعتذرت عنه أو غيّرت قوانينها وأنظمتها وبنَتْ مؤسساتها لتتناسب مع الحقبة الزمنية ومع التطوّر الحاصل في كل المجالات، وبالتالي تغيّرت ثقافة شعوبها وتطوّرت مجتمعاتها وأسّست لشعوب بثقافة براغماتية تنظر لأي مادة أو فكرة أو منظومة من حيث استخداماتها العملية وماذا يمكن أن تفيد في التطور (المستدام)، وبالتالي هي شعوب مرنة في مسألة التغيير في أي شيء، إلاّ أننا نجد المجتمعات في شمال اليمن مصِرّون على أبدية أفكارهم وقوانينهم وعاداتهم حتى وهي لا تقدّم شيئاً لتطوّرهم الفكري والروحي والاقتصادي، بل وتساهِم بشكل مباشر ببقائهم متأخّرين عن ركب الحضارة. الأبديات لا مكان لها اليوم مع التطور الذي وصل له العالم. كل فِكر ينطلق من سِلسة أفكار ومفاهيم تعتقد بأبديتها سيتصادم مع العالم، وحده مفهوم التغيير (والسريع اليوم) والعمل على التطوير الذي سينقلنا من العَدَميّة للإحساس بالحياة ومن القبَلية للمدَنية، ولمسار الأمم المتطورة والتي ما زالت أيضاً تصنع حاضرها ومستقبلها ولم تكتفِ بما أنجزَتْه ولا بنسف ماضيها. لا شيء يبقى للأبد لا فكرة ولا كتب ولا أشخاص ولا منظومة، أفلا يترك الشماليين أيضاً أبدياتهم للمتاحف وكتب التاريخ ويهتموا لبناء إنسانهم الحديث وأنسنة مجتمعاتهم وقوانينهم؟