بقلم/عبدالفتاح الحكيمي. رَفَعَ بعض مثقفي اليمن منذ أشهر شعار (العلمانية هي الحل) باعتبارها عندهم توأم الدولة المدنية الحديثة, ومخرجاً للصراع المزمن على السلطة.. وهي دغدغة فكرية زائفة ومفتعلة من هؤلاء وغزل(غير عفيف) لمشاعر ورغبات المجتمعات العربية الإسلامية في التحرر من حاكمية وطغيان أنظمة الأستبداد والفساد والاحتراب, ومن باب المقايضة الساذجة أيضاً وبخسهم لشأن مكانة دين الإسلام بِكُلِّيَّته, وتوطئة عن رغبة جامحة في إحالة المعتقدات السماوية الى قفص الإتهام على طريق محاكمتها لاحقاً باعتبار الدين الحنيف سبب نكبات وتخلف الأمة. أما تأكيد عَلامِنَةْ (أبو يمن) ودعواتهم المحمومة الدؤوبة لإلغاء أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشرعية من دستور وقوانين بلاد المسلمين فهي إدانة فاجرة لعدالة مرجعيات الإسلام والمعتقد الديني الذين يزعمون احترامه وتبجيله وإسباغ كل مفردات مداهناتهم للآخر عليه . ألإسلام ليس ديانة مُتْحَفِيَّة أصبحت من التراث, ولا تحتاج كذلك إلى وصاية أصحاب الشطحات الفكرية (الطيرمانية), فهي ثقافة شاملة لأكثر من مليارين و500 مليون بني آدم حول العالم, وممارسة يومية منضبطة في العبادات والمعاملات والمسلكيات, وبصرف النظر عن مستوى انفصامية بعض الممارسة وبعدها عن تعاليم العقيدة, فذلك أمر يختص بالمتدينين وليس بالديانة نفسها ألتي يبرر المُتَعَلْمِنون إصدار شهادة وفاة لها ويستعجلون الخطى لالقاء نظرة الوداع الأخيرة لنقلها إلى أقرب مقبرة !!. * الإسلام لا يتجزأ * تشريعات القرآن الكريم (ألإيمانية) لا تفصل بين ما هو اعتقادي من العبادات(التوحيد, الصلاة, والزكاة, والصيام . الخ) الأخلأقيات والمعاملات وبين الأحكام والتشريعات التوافقية والجزائية( تنفيذ العهود والعقود, التجارة, وإقامة حدود القتل, والزنا, والحرابة, والسرقة, وقسمة المواريث,وكل مفردات العدالة الاخرى لمظالم الناس لبعضهم.. الخ). إيمان المسلم غير قابل للتجزئة (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). والمتعلمن العربي-اليمني الذي يزعم تبجيله لكتاب الله وسنة رسوله(كشعارات مدنية حداثية) يمارس وصاية بابوية على الآخر حينما يتفضل(مشكوراً) بالدعوة إلى منح المسلم حرية ممارسة الشعائر التعبدية والطقوس الدينية وحدها باعتبارها من(العادات والتقاليد). ولا تنسى جوقة النفاق الثقافي الكبير هذه التكرم على المسلمين أيضاً بتحذيرهم من ضرورة الحفاظ على عقولهم من الأنحطاط الحضاري(المدني) بعد أن فقدت أحكام القرآن الكريم والسنة صلاحيتها كأي بضاعة فكرية !!. * رفض مرجعية القرآن* لم يقبلوا في مقترحات صياغة مسمى ( الدولة المدنية الحديثة) حتى الاسترشاد بكتاب الله .. وهو القائل تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً.). ويبدو تأثير تجربة حكومة الخرطوم المؤقتة واتفاقها الأخير مع الجبهة الشعبية لتحرير السودان على إلغاء كل أحكام الشريعة الإسلامية من الدستور والقوانين حاضراً في ذهن علامنة اليمن أكثر من غيرهم. لذلك تجدهم عندنا ضمناً مع اختصار القرآن وتنقيحه من الأحكام (الأخطاء الربانية), أو هم مع تجزئته وشطب سور وآيات فيه تتسق والحداثة العصرية.. وصولًا إلى مرحلة الهلوسة الفكرية العظمى, بالدعوة الى تعديل دستور أرحم الراحمين تعالى علواً كبيراً. تلك جزئية النفاق في خطاب هوشلية العَلْمَنَة وأهلها في اليمن والمغرب العربي ومصر وغيرها. أما جزئية الإيمان ببعض الكتاب (أداء شعائر العبادات التقليدية فقط) وترك بعضه الأصلي (تحقيق عدالة القضاء بين الناس وتنفيذ أحكام الحدود الجزائية ورفع المظالم والأنتصاف وغيرها) فهي غاية الهذيان الذي لا يكل أصحابه من نفث سُحُب دخانه لتلويث حياتنا أكثر مما هي عليه. فحكم شرع الله في من يسعى لفصل وتغييب أحكام القرآن وعزلها عن شؤون الحياة والدولة والمجتمع مردود عليه بكلام الله المحكم قطعي الدلالة والثبوت بَقَسَمِه المغلظة لرسوله الكريم : فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحَكِّمونك في ما شَجَر بينهم, ولا يجدون في أنفسهم حَرَجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً). لعلها جدلية العلاقة بين الإيمان وحاكمية شرع الله ورسوله, فلا تنفع عبادات الدهر كله ولا صيام أو قيام وزكاة ملايين السنين وأِنفاق أموال الأرض جميعاً مع رفض الحكم بما أنزل الله .. إلا أن يكون الإيمان (هواية شخصية) من باب التقليد والعادات ومظاهر البريستيج الإجتماعي. وكلنا مولعون بالتراث وثقافة الماضي, وليتحول دين الإسلام وشرعته كذلك إلى قطعة آيس كريم أو شوكلاتة أو دجاج ولحوم ومعلبات مجمدة في ثلاجة الزمن إلى وقت الطلب. وشيء طيب أن ينشئ المتعلمنون في اليمن جمعية(حظيرة تراث ثقافية) أو مقبرة خاصة بالإسلام , أو حتى نصب تذكارية تؤكد انتماءهم الظاهري وهويتهم الحضارية.. فالإسلام عندهم مجرد زَيّ وطني لا يختلف عن الزنة والعسيب(القميص والجنبية). * تلفيق على الرسول* ويتسع فضاء التلفيق المعرفي عندهم للتطاول على رسول الله ولي عنق نصوص السنة النبوية بزعم أن مُبَلِّغ رسالة الأمة محمد صلى الله عليه وسلم ناقض جوهر بعثته, وقد رخص للأمة الإسلامية تدبير وإدارة شؤون الحكم باختيار ما يصلح لها من تشريعات ونظم حكم .. ويستدلون بالحديث النبوي المشهور ( أنتم أعلم بشؤون -أو أمور- دنياكم) حجة على قائله ونسبية رسالة الإسلام .. وبذلك يوفر المتعلمنون على الأمة مشقة الجهد ورفع الحرج عن إلزامية الاحتكام لشرعة ألله ومنهاجه .. هذا الأِكتشاف العبقري المعتسف لدلالة حديث نبوي ورد في مسألة بعيدة عن الحكم والسياسة, وتحديداً هو رد على سؤال أحد الفلاحين لرسول الله في ضرورة تأبير النخيل(تلقيحه) من عدمها وهو موضوع مجاله في الزراعة ومواسمها وطرقها, وليس من شؤون إدارة الدولة والحكم, وكان رده صلى الله عليه وسلم الشهير للفَلاح: ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم).. ولم يقل دينكم, وهي حجة مفتراة أخرجها المتعلمنون العرب من سياقها وتلقفتها ظنون علامنة اليمن(المجتهدون/المجهدون) إلى حيث تلقي بهم شهوات الأهواء والنزق. ولم يسلم القرآن الكريم كذلك رغم قداسته من تحريف وتجريف فكر هؤلاء, وتحويل آيات الله المُحْكَمات (واضحة الدلالة وقطعية ثبوت الحكم) إلى نوع من التسلية والميتافيزيقيا الفكرية والهرطقة وتزيين نزغات الكفر بما أنزل الله على أنها أبرز مخارج الخلاص من الأستبداد السياسي لأنظمة المتغلبين وإقامة أسس تشريعية لدولة عدالة ليس لله وكتابه ورسوله شأن فيها أو مرجعية نافذة, ولا مشورة يؤنس إليها وبها. وكما قال الله تعالى فيهم : : ((فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه(القرآن) ابتغاء الفتنة(الشرك/ألكفر) وابتغاء تأويله)). ومن لا يتورع عن تشويه كتاب الله تعالى وآياته المحكمة وأهداف رسالته الخاتمة لن يوفر ماء وجهه في تحريف كلام رسول الله, فنسخوا القرآن الكريم بالحديث النبوي إمعاناً في إثبات تناقض الأسلام وعدم ثبات أدلته ودقة مقاصده, وأنه مجرد ديانة نسبية وزمنية لا ضرورة لها أو طائل منها, فيما إن نص الحديث النبوي بداهة وعقلاً لا يلغي حكم نصوص القرآن كما هو قول المتعلمنة(إن القانون لا يتناقض مع روح الدستور المدني الحداثي اللاديني). * موقف اليهودية والنصرانية* كل الديانات الكتابية الربانية السابقة للإسلام ربطت صحة إيمان الأفراد بتطبيق الأحكام السماوية بما فيها اليهودية والمسيحية, أما المتعلمنون( ماركة أبو يمن) بوجه خاص في الموقف من جدلية العلاقة بين ( واحدية ألإيمان والعبادات وحاكمية الله) تنكبوا مسارات مماثلة لما كان عليه بعض بني قريضة وطلبهم من النبي الحكم في بعض خلافاتهم بالقرآن وليس بما عندهم فأنكر الله ذلك عليهم :(( وكيف يُحَكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يَتَوَلَّون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين( المائدة 43 إلى قوله تعالى في فصل الدين عن الحكم : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.44-). وكما اليهودية لا تستثني حاكمية ألله النصرانية المسيحية كذلك من امتثال شرائع الدين : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه, ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون(47). فكتب السماء كلها وزبورها عند داوود وفي الألواح لا تفصل الدين عن الحكم, بل إنها أخرجت من يقول بذلك من الملة بتأكيد وتكرار قاطع لا يقبل اللجلجة والهزو (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون1/ الظالمون2/ الفاسقون3) بنص حكم كتاب الله (القرآن) الذي أكد ما قبله وليس وجهة نظر أو رأي شخصي محض أو افتراء على المخالفين من أرحم الراحمين. فشرط الغاء قوانين وأحكام القرآن والسنة الصحيحة ألتي يروج لها المتعلمنون ومُراوَدَة المسلمين التشريع بخلافها يلغي واحدية رسالة الأديان السماوية, لذلك فاليهودية والمسيحية والإسلام الخاتم ليست مجرد عقائد وطقوس صلوات وشعائر ومناسبات وزينة أعياد فقط بل وشرائع(حكم) بلا حدود أو قيود, فلا إيمان مع رفض تشريع رب الإيمان .. ولا عدالة أرضية أو وضعية أو سمو لقوانين وتشريعات أكثر رحمة وأِنصافاً للبشر من عدالة الله سبحانه تعالى..((لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا = المائدة 48)). والفارق هنا لصالح يهود زمان أنهم لم ينكروا دينهم أو ينسلخوا من جلودهم بل ظن بعضهم أن حكم القرآن سيحقق مصلحته الشخصية من الخصم.. وأترك التعليق للجمهور لمقارنة الفشخات الحضارية التي وصل إليها بعض محسوبين على المسلمين عندنا.. وقد جعل الله القرآن مرجعية حكم جامعة لاختلاف المسلمين لا بديل لها :(( وما اختفلتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أُنيب.(الشورى 10). * شرع ألله أكبر من الصلاة والزكاة* وأكثر من ذلك أن وجوب والزامية وعدد آيات تحكيم شرع الله ورسوله في القرآن الكريم هي أضعاف أضعاف وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقات .. فرسالة القرآن العظيم ليست عبادات وقيام وتسابيح ودعاء الليل والنهار أو أخلاق مجردة و(بريستيج, واتيكيت) فقط بل هي أكثر من ذلك حكم عدل وإنصاف, ودولة راعية تقيم شرع الله وتصون الأمانة لا تخونها, وإنفاذ حكم الله ولو بالجبر :(( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب أن الله قوي عزيز ( الحديد25). والحكم بغير شرع الله وكتابه إنكار لرسالته وأن شرائعه هي العدل المطلق, وسبب التنزيل ليس إقامة الشعائر التعبدية وحدها بل وإقامة الحكم والحق في الأرض :((أنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك ألله ولا تكن للخائنين خصيما(النساء 105).. فهل نمضي مع أباطيل العلمانيين(أللادينيين) أم مع رسالة رب العالمين.؟. * شذوذ فكري* ألأنكأ أن المثقف اليمني المتعلمن على معرفة معقولة بكتاب الله أكثر من أعراب الفرانكفونية والانجلو سكسونية, والماسونية, بحكم نشأة اليمني في بيئة ثقافية ملتزمة فتكون أهواؤه الفكرية أقرب إلى خيانة الله ورسوله : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتتكم وأنتم تعلمون)) خيانة تضع حال المسلم في منزلة بين منزلتين على الأقل إن لم تَكُبّ رؤوس الهلوسة(العلمانية) ووبائهم الذهني أسفل سافلين. وقوله تعالى للرسول الكريم: ثم جعلناك على شريعة من الأمر(الحكم) فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون(أي الذين لا يتقون الله أو يخشونه في انفسهم)..الجاثية 18.. وذلك حال عَلامِنَة اليمن (ألمثقفين) كواقع حال علماء بلاط السلطان الذين أحَلُّوا مؤخراً ما حرم الله من فسوق ومعاصي ينكرها الكافر قبل المؤمن والجاهل قبل العالم .. لكنها قاعدة(خالفوا تُعْرَفوا) فأنكر بعض الأزهريين تحريم الخمر, وأباح أحد النجديين بيعه مع سهرات المجون !!. ونسوا أن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لمرتكب الكبيرة مع ستر العبد لها, ويحل عقوبته في الدنيا والآخرة على من يزين الفاحشة للآخرين أو يتهم غيره بها ولا يقترفها :(( ألذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) فالله كذلك يصفح أكثر عن المستور ويعاقب على المجاهرة, وفي الحديث القدسي إن إنساناً يعاقبه الله لأنه ستر فعلته وفضح هو أمره !!. فما بالنا بدعوات فساد فكرية شاملة خطيرة لا يدرك أصحابها مدى عبثها بدين وأخلاق المسلمين وقيمهم الأعتقادية, وفي مجتمعات يصفها العَلامِنَة ب( المتخلفة) وأحوج ما تكون إلى بقايا القيم الحميدة وإلى ترشيد وتصحيح الأنحراف وليس تجريف المرجعيات الروحية. تمضي بنا أمونيا أفكار العلمانية الطفيلية في اليمن والبلاد العربية والمسلمة للتسلل بعاهاتها الأيديولوجية والنفاذ من باب حالة الشتات والتيه والتمزق والاقتتال الراهنة ألتي أوصلت الشعوب إليها أنظمة حكم الأستبداد والفساد والطغيان وورثة عروشها. وكمثل تجار الحروب تتحول بعض الأفكار المريبة إلى بضاعة إعلامية تتطفل على تداعيات الحرب ذاتها وتشق لنفسها طرقات ممكنة خفية في خضم ثقافة الخراب الشامل ضمن تعبيرات انتهازية أخرى, لكن مصيرها الحتمي في النهاية(( كمن يؤذن في مالطا)) أو ينفخ في قربة مخزوقة. وليس ختاماً بل توطئة لقادم آخر .. قوله تعالى :(( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون إلا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) فما أسوأ من محاولة العبث بعقائد ومواثيق الناس مع خالقهم واستبدال فضيلة الدين برذيلة أفكار الضلال.