أمر مؤسف أن يتقوقع بعض مثقفينا ومؤسساتنا الثقافية والتعليمية والخدمية في زوايا فكرية متحجرة يحسبونها الكلمة النهائية التي قالها العلم- وحاش له أن يقول ذلك، في حين نجد منتسبي مهنة «التسوّل» في بلادنا على صلة لا إرادية بأساليب وفنون الحوار ووسائل الاتصال والإقناع الحديثة في سعي حثيث إلى تحديث أدوات وطرق «التسول» واستمرار هذه المهنة مجالاً مربحاً لكل يد استعذبت الاستجداء حتى أقعدها عن طرق أي باب آخر من أبواب الرزق الواسعة التي يخلقها الرزاق من حيث لا ندري وممّا لم نتوقع. التسوّل اليوم يمتطي على ظهر البيئة كماً ويعيد تشكيل نفسه كيفاً، فمن حيث «الكم» هي حقيقة نلمسها في أفواج تسري وتدلج وترغي وتزبد، والتسول عندها خير ميراث يورثه السلف للخلف من هواة العيش على فتات الموائد حتى وإن جاد الزمان بخير الطعام وبكور الثمار. أما «الكيف» فهو ميدان الإبداع ومحيط المنافسة، فالمتسوّل الناجح هو الذي يمتلك خزيناً متطوراً من عوامل الإدهاش والجذب والتأثير والسيطرة على عقول وقلوب المخاطبين، لكن ما الذي يحدث إذا تبلد إحساس المخاطب «الجواد الكريم» لحظة إيصال الرسالة التسولية بأحدث تقنيات الخطاب المؤثر الممزوج بنبرات الحزن المصطنعة وموجات مفزعة من التهويل وحشد الكوارث والرزايا ومصائب ليس لها من حلول إلا ريال «ساعدوني الله يصلح أولادكم»؟! الذي يحدث اليوم أمام هذا التقلص في حجم عوائد المتسولين وأمام هذا التملص عن حسن الظن بهم هو أن يلجأ المتسولون إلى لغة متشظية «تفكيكية» تستفيد من حيث لا تدري من منهج التلقي ونظرية النص إن صحت الفكرة ، فأحد المتسولين يستمر في إدهاشي حينما أجده يتردد على مساجد وسط المدينة متحدثاً بلهجة يضحك لها من يضحك ويثور لها من يثور، ورغبة مني في إثبات «جُرْم» هذه اللغة ومحو آخر أثر للمروءة عند هؤلاء باستنزاف جائر لماء الوجه أضع أمامكم نصاً من نصوص و«موّالات» هذا «المتسوّل النادر» وأترك لكم مهمة التشريح الذي يفضح كل من يتحمل مسؤولية هذه النكتة السوداء في جسد المجتمع. سأثبت النص حرفياً وهو ما يلي: «استحوا على أنفكسم، عيب عليكم، ليش ما تدوليش؟! إيش بيني وبينكم؟ تتجملوا بها مع اللي ما يستحقوش.. هاه؟ بطلوا هذي المهرة الوسخ. عيب.. عيب عليكم.. لكن أنا عاوريكم كيف اللف والدوران، لأنكم مش تمام، تستاهلوا.. تستاهلوا واحد يسوقكم بهذا العصا لوما تصحوا.. أنا أوقف أمامكم وأنا محتاج فهمتم أو لا؟! وإلا تشتوا خبر ثاني». هذا النص، وحبذا لو نعمل فيه قرائي الأعزاء يد التحليل والتشريح بمشرط «العفة وواجبنا نحوها» فسنجد من ذلك كم نحن متهاونون بالحق العام حق طهارة البيئة من أذى «السائل المبهرر».