واقعنا عرف منذ وقت مبكر ربطاً بالتعصب، وبالعنف، وبالاستبداد وبنفي الآخر.. فنحن نميل نحو التعصب والعنف والإقصاء والتهميش.. وأنّ لحظة ضعفنا أمام الانتصار غير الواضح، هي التي تكسر كل شيء.. هكذا وجدنا أنفسنا للأسف الشديد في واقع قابل لأن ينفجر في أية لحظة, بعد أن هيئ لنا سقوط النظام السابق وانتهائه, فعملنا على إطالة فترة زواله بممحاكات وخطابات, تنال من بعض التكوينات الثورية والسياسية, تنال من تماسكنا, فجعلتنا نبتعد عن تحقيق الآمال والطموحات, التي خرجنا في ثورة من أجل تحقيقها, من أجل إحداث قفزات نوعية في عملية التغيير, لم يجد الإنسان العادي أي تغيير وإن كان طفيفاً, فما هو السبب؟ السبب المباشر الغياب القسري لقيمة التسامح, التي تعد من فضائل الأخلاق والعلاقات الإنسانية, فالبعد عن قيمة التسامح بما تحمله من معان جميلة, مثل الأخلاق وسعة الصدر والإيثار والمبادرة والتقدير والتنازل والتراجع والعطاء والاحترام أدى بنا إلى ما وصلنا إليه.. وهي معان توصلنا إلى تحقيق الدولة المدنية فتكون واقعاً معيشاً, لا شعارات ومصطلحات نرددها بين الفينة والأخرى.. أين الدولة المدنية؟ أين مبشراتها؟ أين المواطنة والقبول بالآخر؟ كعناوين بارزة واكبت مسيرتنا الأولى, لا شيء في الأفق إلا السواد المعتم والضبابية, التي نستشفها من الخطاب النخبوي, الذي نجده مبثوثاً هنا وهناك.. نقف حائرين أمام كتابات البعض من الذين نعدهم مثقفين ورواداً لحركة التغيير؛ إذ لا نرى إلا التشكيك والتخوين وكيل التهم جزافاً, وبلا دلائل أو مبرارت, فهو الغياب التام للتسامح والالتقاء حول أهداف مشتركة, التغريد خارج سرب المبادىء والمثل التي نتغنى بها ليل نهار.. مرّ العالم كلّه بحالات غضب في يوم ما، وهيجان, وثورات، وحروب أهليّة، واحتجاجات، ولكنّها لم تكن مزعجة ومرهقة ومتعبة إلى هذا الحد، هي أحداثنا وحدها مزكومة بالكراهيّة وروح الانتقام, مغلفة بأشياء تافهة وأعذار واهية, تنسج كما يريد الحاقدون من عملية التغيير, تتحوصل وفق ما يريد لها البعض أن تكون, حتى تلك الأحداث التي أزهقت الأرواح فيها، لم تكن متاهةً للعنف ولا مدعاة له, بل كانت بداية وعي وإصلاح ديني واجتماعي, يلفت إلى حقيقة إنسانية.. هذا في بعض دول العالم, التي نجحت في صنع وبلورة أحلامها من أجل خلق الوعي بالمستقبل وحقيقة الإنسان وحقيقة التغيير.. أما نحن تهنا في متاهات وسراديب أخطائنا غير الضرورية، واندفاعاتنا غير المبررة فلم يرافقنا إصلاح، ولم نوجد وعيًا, بل أوجدنا تعصّباً وخراباً ودماراً وتوهاناً, أوجدنا صراعاً مغلفاً بمذهبية وحزبية مقيتة, وبأفكار تعمل على شق الصفوف لا تجميعها, فمثل هذه الممارسات عداء صارخ لكل القيم والمفاهيم والنظم, تحتاج من الجميع وقفة جادة لكبح جماحها, والتصدي لها بكل ما أوتينا من قوة وإصرار, لنؤكد أن انتفاضتنا مستمرة, وحراكنا لا يهدأ ولا يستكين, ولا يرضى بأنصاف الحلول أو الحلول المبتسرة.. فيجب أن نؤمن بثورتنا وقيمنا بعد تجربتنا المريرة، بمراجعات ذاتيّة حقيقية، لأفعال كلّفتنا من الشهداء والجرحى الكثير بأن لاشيء في الوجود يستحق إسالة الدماء والقتل، وأنّ الانتقام يوهن من إشراقة الحياة ويلوّنها بألوان الشّر ويغذي روح الظلام ليبقى، ولا يجلب الراحة بأي حال. فهي ثورة خرج من أجلها الجميع, قدمت تضحيات كثيرة في سبيلها, ثم نرى تراجعاً لدى بعض أفراد المجتمع ونكوصاً وهروباً, نرى تخلخل الثقة والأمان, فلا مسؤولية ولا احترام ولا انتماء ولا ديمقراطية ولا مساواة ولا عدالة، لقد كثرت اللاءات, فأكثر من “لا” هنا وهناك في الجنوب, ومثله في الشمال في صعدة وتهامة وغيرها, فمن الذي أوصلنا إليه, وكيف يتم لنا الخروج من هذه المعمعة والمفازة القفر؟ .. فكم هي الحاجة ماسة وملحة إلى إيجاد حلول للفوضى العارمة, التي سادت البلاد وضيعت الأفراد والعباد, التي صنعت مساحة كبيرة في شق الصف الجمعي, فتغلغلت في جميع الاتجاهات والتوجهات.. لإعادة الثقة والانتماء والولاء للوطن نحتاج إلى منهج تربوي وخطة زمنية مبرمجة ودورات تدريبية مكثفة, لا العلاج بالأدوية والمهدئات والمسكنات والحلول الآنية المرتجلة.. فالتفكير بقضايانا ومشاكلنا لا يحتمل التأجيل, فلا بد من إيجاد آليات لبناء دولة حقيقية, دولة قادرة على أن تقضي على التلوث الفكري واجتثاث الفساد المستشري ووأد الفتنة, وفق تطبيق منظومة القيم الوطنية, لتبقى الوحدة الوطنية عنواناً لمجتمع أكثر عدالة ومساواة وتسامحاً وديمقراطية, كل ذلك لابد أن يكون في سلم الأولويات لبرنامج الحوار الوطني.. مع الاستسلام للأفكار العظيمة التي تُولَد في لحظات الأزمة, يأتي بها أناس عظماء، تخلقوا بأخلاق العظمة فتلبستهم, فلا نراهم إلا في صف الوطن وفي صف وحدته وحاضره ومستقبله, يمتازون باليقظة ولديهم القدرة لقول الحقيقة، والترويج للنهضة، والتبشير بالخير, وأن الغد أجمل وأكثر نصاعة وإشراقاً, فلا نراهم صامتين, بل تجلجل كلماتهم بيننا, يستفزون كل ذرة فينا, لنكون أكثر قوة وتماسكاً, أكثر شوقاً لتحقيق وملامسة أحلامنا.. فيعملون على وقف أي ضخّ للكراهية، وأن تكتلات العداء والتحارب، لا تدمر الحاضر فحسب, بل تدمر المستقبل، وأن الغضب والانتقام، يفسح الجو لطيور الظلام، ولمصاصي الدماء فيستمتعوا بدمائنا وأموالنا وعقولنا. فحري بالمثقفين الحقيقيين اتباع أولئك بإحسان, لنشر ثقافة التسامح وروح الأخوة والمودة والصفاء, التي ستنعكس بالضرورة على سلوكياتنا كلها, لتشيع بعدها معاني الخير والفضيلة والإخاء, في طريق بناء الإنسان أولاً لنستطيع بناء الوطن بعدها لنستحق العيش هنا بسلام وأمان وطمأنينة افتقدناها كثيراً.. فعليهم السعي والحرص في كتاباتهم ومحاضراتهم لأن تبقى جسور المودة وقناطر التواصل ممتدة في أوساط الناس, بعيداً عن الغيظ والتعصب والانتقام والكراهية, التي لا تخدم أحداً أبداً, إلا أعداء الوطن والواقفين له بالمرصاد, ممن كانوا حجر عثرة أمام تقدمه في الماضي, ومازالوا يتحينون الفرص, ويقتنصون الأخطاء ويتصيدونها, لوقف عجلة التغيير وحرف مسارها لتصب في معين أهدافهم الشيطانية.