المراقب للتحركات السياسية للمملكة العربية السعودية خلال فترة حكم الملك سلمان يدرك حجم التغير العميق في أداء السلطة السعودية، والتي باتت تتصف حالياً بالبراغماتية والنضوج والدهاء، هذا فضلاً عن الانفتاح الواعي على العالم، واستشعار الحاجة لخطط اقتصادية مبتكرة وطموحة للإبقاء على المملكة سيدة للشرق الأوسط، ومركز ثقل عربي كبير في المحافل الدولية. ولعل الزيارة التاريخية للملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز الى دولة روسيا الاتحادية، ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان باكورة العمل السياسي الطموح للمملكة، خاصة وأنها أول زيارة لملك سعودي الى روسيا، ما يعني تحولاً شاملاً في مفاهيم صانع القرار السعودي، وإدراكه الكبير لجملة المخاطر والصعوبات التي تواجهها المملكة في الوقت الراهن، في ظل احتراق غير مسبوق على رقعة شبه الجزيرة العربية، سواءً في اليمن أو سوريا أو العراق أو لبنان، هذا فضلاً عن الأزمة الخليجية الخليجية، والتي تهدد السلم والأمن بشكل غير مسبوق في البلدان الخليجية. ووسط هذا المعترك المملوء بالألغام والمطبات، تتحرك السعودية بمهارة فائقة لتدير صراعاتها المتفجرة على أكثر من جبهة، فاليمن الذي يعد الخاصرة الجنوبية والحائط المنيع لأمن السعودية بات مهدداً بالانهيار بعد انقلاب المليشيات الحوثية الممولة من إيران، العدو الأزلي للملكة والعرب – واجتياحها العاصمة صنعاء في سبتمبر من العام 2014م، كما أن حزامها الخليجي انفرط بشكل كبير بعد إقدام دولة قطر على اختيار الحضن الفارسي، في تصرف سياسي وجه طعنة قوية للسعودية وتسبب بشكل كبير في خلخلة الصف الخليجي، في وقت تنشغل فيه المملكة بإدارة واحدة من أطول حروبها (الحرب اليمنية). ووصل الملك السعودي سلمان أرض العاصمة الروسية موسكو مساء أمس الأربعاء، والتقى اليوم في قصر الكرملين بالرئيس الروسي بوتين، في لقاء سياسي وصف بأنه الأكثر أهمية في العقد الأخير بآسيا، وسط توقعات كبرى بأن تسفر الزيارة عن حلحلة شاملة لعدد من ملفات الشرق الأوسط، خاصة في وسورياواليمن، في ظل تواجد أهم لاعبين في المشهد الحالي للصراع (السعودية وروسيا). وعلى مر الأعوام السابقة دعمت السعودية المعارضة السورية بالمال والسلاح بغرض تحقيق عسكري حاسم في سوريا، التي يربطها علاقات متينة مع إيران، غير أن الانقسامات في المعارضة، ودخول فصائل وتنظيمات متشددة على الساحة بعثر الأوراق لأعوام، وبقيت الحلبة هناك بين شد وجذب، حتى قررت روسيا التدخل مباشرة في القتال المحتدم هناك، وإرسال آلاف المقاتلين بمعدات عسكرية نوعية، كما شنت مقاتلاتها الحربية المتطورة آلاف الغارات الجوية على مناطق سيطرة المعارضة في عدد من المدن. روسيا التي تحركت عسكرياً لإعادة الحياة لأحد الأنظمة الشيعية في المنطقة، سعت لتحقيق توازن إقليمي فأقامت خطوط تواصل متينة مع تركيا، وهي لاعب سني كبير، غير أن موسكو تدرك أن الثقل الديني والسني هناك في مكة، لذا فهي تدرك الأهمية القصوى لإقامة تفاهمات مع المملكة، وكان ذلك جلياً منذ عامين مضت، حينما دعا بوتين قبل عامين الملك سلمان لزيارة بلاده. ويرى محللون سياسيون أن الروس يسعون لتعزيز تحالف بناء مع السعودية نظراً لعمق تأثيرها في المشهد السوري، فانقطاع العلاقات بين البلدين قد يكلف الروس كثيراً إن ارتأت القيادة السعودية تعزيز الدعم المالي والعسكري للمعارضة السورية، ما يعني وقوع رجل موسكو في الوحل السوري، وهي تدرك خطر ذلك جيداً، خاصة وأنها ذاقت المرارة ذاتها إبان تورطها في أفغانستان، أواخر القرن العشرين، ما أجبرها على الخروج في النهاية مهزومة في ذلك الصراع. على الناحية الأخرى فإن المملكة تدرك كذلك مدى الارتباط الوثيق بين موسكو وطهران، ما يعني بالضرورة امتلاكها ميزة ضغط على المليشيات الشيعية في اليمن، وهو ما تسعى السعودية وراءه لإنهاء حرب طال أمدها في خاصرتها الجنوبية، وهي التي اعتقدت حين اندلعت الحرب أن الحسم العسكري ضد المليشيات لن يتجاوز بضعة أشهر، وها هي الحرب تقترب من إكمال عامها الثالث، دون أن يلوح في الأفق أية بوادر لانفراجة في المشهد، سوءاً على الصعيد السياسي أو العسكري. ولا تبدو السعودية مستعدة لإهدار مزيد من جهدها الحربي في اليمن، خاصة مع تبنيها عبر ولي عهدها الأمير محمد سلمان خطة اقتصادية طموحة (رؤية 2030)، وهي رؤية تهدف لتعزيز نفوذ المملكة سياسياً واقتصادياً، عبر مشروعات اقتصادية ملهمة لا ترتكز على العائد النفطي بشكل أساسي لزيادة الاحتياطي النقدي للمملكة. غير أن نجاح هذه الرؤية مرهون بإنجاز حل سياسي شامل في اليمن، لذا فإن صانع القرار السعودي يسعى – بحسب سياسيين – لعقد صفقة تبادلية يتم فيها خروج المملكة من الأزمة السورية، في مقابل ممارسة روسيا ضغطاً فاعلاً على الحوثي وصالح للإذعان لحل سياسي ينهي الصراع في البلاد، فهل يتحقق لها ذلك؟