يخرج المتأمل في واقع خطاب الأحزاب اليمنية كلها بحقيقة صادمة مفادها أن هذه الأحزاب تخلت تماما عن الثقافة وأعلت من شأن الخطاب السياسي على ما عداه، ويتضح ذلك من خلال اكتظاظ المواقع الإلكترونية بوصفها اليوم الوسيلة الإعلامية المتاحة بمئات المواد السياسية أخبارا وتحليلاتٍ بينما تغيب المواد الثقافية وخاصة في جانبها الفني والأدبي غيابا شبه كلي. وفي أحسن الأحوال تقوم هذه المواقع الحزبية بنشر مقالات شبه فكرية لا تتعدى ان تكون رادفا سياسيا لبعض الأحداث والمواقف. فهل أعلنت أحزابنا السياسية بذلك عن تخليها عن الثقافة؟ وهل كان الهاجس الثقافي حاضرا أصلا عند تكوين هذه الأحزاب؟ من البديهي أن لكل حزب رؤية فكرية تمثل منطلقا لكل أنشطته المختلفة، ومن الطبيعي أن تكون الثقافة بتجلياتها المختلفة حاضرة في هذه الأنشطة لأنها أداة اتصال جماهيري ووسيلة من وسائل الاستقطاب من جهة، ومن جهة ثانية فهي منبر يتيح لكل كوادر الحزب من المفكرين والأدباء والفنانين أن يقدموا أنفسهم من خلاله، وأن يساهموا في صناعة المشهد الإبداعي بما يتوافق مع الرؤية الفكرية التي يتبناها هذا الحزب أوذاك. وقد أدركت مختلف الأحزاب اليمنية أهمية الثقافة في تكوينها الفكري والسياسي فظهر ذلك في مجالين اثنين تبنّتهما مختلف هذه الأحزاب تقريبا. يتمثل الأول منهما في تخصيص دائرة للثقافة في الأمانة العامة لكل حزب، وتتفرع عنها دوائر مشابهة في المكاتب التنفيذية للمحافظات، ويعول عليها جميعا في تقديم انشطة ثقافية جماهيرية مختلفة على مدار العام وفق خطط مدروسة وبرامج معدة تراعي مطالب الجماهير بشكل عام والمنتمين لهذه الأحزاب بشكل خاص. أما المجال الثاني فقد تجلى في تلك الملاحق الأدبية والصفحات الثقافية التي كانت تتضمنها مختلف الصحف والمجلات الحزبية التي كانت تصدر بشكل دوري ووفق مواعيد ثابتة. ولم يعرف عن أي حزب أنه مارس الفعل الثقافي في غير هذين المجالين. فهل ثمة منجز ثقافي يمكن أن نشير إليه في سياق حديثنا عن هذين المجالين؟ الحقيقة أن دوائر الثقافة في مختلف الأحزاب كانت إعلامية بامتياز. حيث تركزت معظم أنشطتها على إصدار الصحف والنشرات متابعة لأخبار الحزب وأنشطته السياسية بينما اقتصر الفعل الثقافي على إحياء المناسبات المختلفة وعلى حفلات التأبين التي كانت تقام للراحلين من مختلف الأحزاب، وقد يكلل ذلك بإصدار كتاب في سيرة الفقيد وذكر مناقبه. أما ما كان من أمر الصحافة الأدبية في هذه الأحزاب فيحسب لها أنها عملت على التعريف بكثير من المواهب الإبداعية في الشعر والقصة والنقد، لكنها إلى جانب ذلك اهتمت بالكم على حساب الكيف حتى أصبحت بعض الصفحات الأدبية أشبه ماتكون بصفحات القراء التي تنشر الغث والسمين دون مراعاة لطبيعة هذه الصفحات والملاحق ووظيفتها في تقديم النصوص الجيدة. على أن الصحف أيضا تبنت نوعا من السجال الفكري لكنه كان أقرب للجدل منه للمثاقفة وذلك بسبب الأطر الفكرية المنغلقة أيدلوجيا والتي عملت على التمترس خلف الإيلوجيا على حساب التقارب والتثاقف مما أسهم في تعميق حالة الفرز الفكري بين مختلف الأحزاب والمكونات السياسية. الجديد في الأمر اليوم أن هذين المجالين أصبحا معطّلين فلم يعد هناك دوائر ثقافية لأن الأحزاب السياسية أخفت وجودها المؤسسي واكتفت بالحضور السياسي تماشيا مع الحالة المزرية والانقسام الحاد للواقع اليمني عموما. ومن هنا يمكن القول أن المجالين الثقافيين المذكورين وإن لم يفلحا في تقديم الصورة المثلى للفعل الثقافي إلا أنهما مثلا خطوة كان يمكن تطويرها والبناء عليها، أما وقد ذهبا في كف عفريت فقد أصبحت الأحزاب اليمنية اليوم تعيش حالة طلاق نكدة مع الثقافة علما بأن مختلف الأزمات العاصفة التي تجتاح الراهن اليمني قد تخلّقت وتموشجت في رحم الأزمات الفكرية التي أدارت لها الأحزاب السياسية ظهرها مبكرا.. وحين يغيب الفكر والثقافة تحل محلها أدوات الإقصاء والتهميش التي لا حدود لها.. والتي ماكانت لتتعملق وتتجبر في محيط فكري فاعل ونظيف.