من نافلة القول الإشارة إلى أن العقلَ العربي في اللحظة الراهنة مسكون بهاجسين اثنين لا ثالث لهما: الهاجس العسكري ويتخذ من ليبيا وسوريا واليمن وبلادا أخرى مسارح مشتعلة يتموضع فيها، والهاجس الأمني ويظهر جليا في بلاد أخرى كتونس ومصر والسودان وغيرها، وما بين الهاجسين تهرع هذه البلاد نحو مآلات مجهولة من التردي والتعاسة في مختلف مظاهر الحياة حتى ليشك المتأمل في الأحداث المتسارعة ومجريات الواقع من حوله أنه أمام مسرحية يجتمع فيها المضحك والمبكي معا في محيط ينذر بالمزيد وأمام مواجع يرقق اللاحق منها السابق. ثالثة الأثافي في هذا المشهد ما بدأنا نلحظه في المسرح الفكري من تطاول على ثوابت الأمة، والانتقاص من قيمها الاعتبارية بدءا بالسنة ومصادرها مرورا بالرسول الأكرم ووصولا إلى الذات الإلهية، وهو نشاط محموم وصلت شرارته إلى منصات التواصل الاجتماعي حيث تندلق السفاهات وتنسكب الشبهات بشكل مزدحم وفج وجريء بشكل غير معهود. ومن الغباء القاتل أن يُنظر إلى هذه المظاهر المسعورة على أنها حالات فرية تجري بمعزل عما يعتمل في البلاد من تطورات عسكرية وأمنية، ذلك أن المعركة التي تدار ضد الأمة هي معركة واحدة وإنما تتعدد أدواتها وتتنوع بتنوع الأهداف والغايات، ومما يؤكد واحدية هذه المعركة وقصديتها من قبل أعداء الأمة هذا التناغم الشديد بين شتى جوانبها العسكرية والأمنية والفكرية. ومن المهم الإشارة إلى الجانب الفكري في هذه المعركة هو الأكثر أهمية، ذلك أن الفكر باعتباره الحاضن للعقيدة وللهوية وللوجود هو الحصن الأخير لأي أمة، فالإخفاقات العسكرية أو الانتكاسات الأمنية هي حالات طارئة تأخذ وقتا معينا ثم تمحي بمجرد ظهور علامات التعافي وكأن لم تكن، فهي لا تمثل قاصمة ظهر كما تمثله الهزيمة الفكرية، وليس ثمة شك في أن ما يراد للأمة اليوم هو أن تنهزم فكريا ليسهل بعده استئصال شأفتها وقلعها من الجذور، وما هذه التماديات المسعورة هنا وهناك إلا طبول حرب يقرعها الشياطين إيذانا بقدوم المعركة الفكرية الكبرى التي يُعدّ لها الآن على قدم وساق مستفيدين من ثورة الاتصالا ومن الإمكانات الرهيبة التي أتاحها لهم جرأتهم على تمرير مشروعهم الهدام وتخاذل الأمة في بلورة مشروع مواز يعول عليه في صد هذه الهجمات المتوحشة والوقوف في وجهها بكل صلابة وحزم. إن أخطر ما في المعركة الفكرية القادمة ليس جرأة الطرف المهاجم وتخطيه لجميع الخطوط الحمراء، ولكنه غياب المشروع الجامع المانع الذي تنتظم فيه القوى الفكرية للأمة في إطار من التعاضد والتناصر، وقبل ذلك كله لا بد من اليقظة ورفع الجاهزية الثقافية لمجابهة هذه الهجمة الخبيثة التي لن يبقى للأمة باقية في حالة تحقيقها لمآربها وأهدافها. وما هو ملاحظ اليوم أن الأمة انشغلت بالهاجسين العسكري والأمني، فدارت عجلة الإعلام تبعا لهذا الانشغال ناسية أو، متناسية للجانب الفكري، وتلك لعمر الله كارثة وخطر لا شك عظيم.