أمير الشعراء أحمد شوقي كفلته جدته، و اعتنت بتربيته، و هي التي كانت تعمل لدى خديوي مصر. كان الشاعر الكبير أحمد شوقي و هو لا يزال طفلا في سنواته المبكرة يمشى و هو يرفع رأسه إلى الأعلى، فكان الخديوي يرمي لابن الثلاث السنوات بجنيه من ذهب إلى الأرض، فتستلفت رنة قطعة الذهب الطفل الصغير فيحني رأسه إلى الأرض، فيقول الخديوي لجدة شوقي - مداعبا - هكذا عالجي هذه اللازمة فيه، فتقول له : يا مولاي هذا دواء لا يوجد إلا في صيدلية جلالتك. على أن الطفل الصغير، أو الشاعر الكبير - فيما بعد - ظل شامخا برأسه، شامخا بشعره و أدبه، حتى بايعه شعراء العرب أميرا للشعراء. و الأهم من ذلك أنه كان ممن ينشد الحرية، و يتطلع للتطور و الرقي، و ذلك حتى لا يذهب ذكر الذهب - هنا - بمن يقرأ هذه السطور إلى أخذ فكرة سلبية عن الشاعر، فكيف و هو القائل :
و للحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يُدَق
بعد أن امتدح أحرار الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي :
ليست مشكلة هذه السطور فيما ستطرحه - هنا - مع أهل الشموخ، أو الذين يرفعون رؤوسهم عاليا علو مواقفهم، و نهجهم في الحياة، و لكن المشكلة هنا، مع الذين يطأطئون رؤوسهم، باستمرار، أو يخلدون بها إلى الأرض على الدوام، فإذا ما لاحت لهم الشمس من أعلى ؛ لتضيء لهم الطريق و تبصرهم السبيل، أغمضوا عيونهم، و انحنوا بقاماتهم، و طأطأوا برؤوسهم إلى الأسفل، هربا من النور، و خوفا من الضياء، و لاذوا متسللين إلى الأماكن المظلمة ، و الزوايا المعتمة، و ليس ذلك بغريب ؛ فالبوم تأنس الظلمة و تعشق الظلام، و مهما لاح لها الفجر، أو ظهر النهار، أو طلعت الشمس، فإنها تختفي و تتوارى. هذه نفسيات تكره النور، و تعادي الفجر، و تنابذ الشمس العداء، و تحب أن تعمل في الظلام ، بل و تسب الشمس و تلعن الضياء، و ترمي الشمس بكل نقيصة. إن المبادئ لتعمل علنا ( وقل الحق من ربكم ) و تنطق جهرا ( قل هذه سبيلي ) و تمشي باستقامة ( أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ) و تتحرك بوضوح و دليل ( قل هاتوا برهانكم ). وليس بمقدور المطابخ المحجبة أن تمنع ضياء الشمس بما تدسه من تقارير ، و تنشره من أباطيل، فغرابيل المطابخ أضعف من أن تحجب ضوء الشمس، و أباطيل الدرهم و الدولار، أذل من أن تسترق الثوار، أو تقتحم مجتمعات الأحرار . إن مصادر الدرهم و الدولار إنما تتطلع لأن تشتري نوعية معينة من الناس، و ترتضي فيمن تشتريهم بتوفر شرط واحد هو القابلية للعبودية و الاستحمار ؛ للعمل معها في مطابخ الكيد و الدس و شيطنة الأحرار، أو كمجندين في الطابور الخامس. ويقف بك الواقع أمام صورتين ؛ صورة مشرقة تبذل الروح و الدم دفاعا عن كليات الحياة الحرة الكريمة، و صورة قاتمة بائسة تتسقّط الدرهم، و تشحت الدولار، و تحمل خنجر الغدر لتطعن من الخلف، و تلمّع جرمها و دسائسها، و تسوّق خبثها و تقاريرها بعض قنوات فضائية ، يبدو أنها تجد نفسها في ترويج منتجات ذلك الوسط الموبوء، بل قل أنها أداة لتلك الجهة المتربصة التي نذرت نفسها لمحاربة الحرية و الأحرار ، و مناصرة الظلم و العبودية و التخلف .