مثلما يمكن اعتبارصفقة القرن نتيجة لمقدمات اشتغلت عليها الإدارة الإمريكية وأدواتها في الوطن العربي منذ أمد بعيد من أجل عيون إسرائيل، فإنه يمكن اعتبارها أيضا مقدمة لتحولات كبيرة ستشهدها المنطقة على كافة الصعد لا سيما الصعيد الفكري بوصف الفكر واحدا من أهم الموجهات المؤثرة في حياة الأمم والشعوب إن لم يكن يتبوأ الصدارة في هذا الأمر. وعلى الرغم من التحولات الفارقة التي سيشهدها هذا المضمار بعد إتمام مراسم هذه الصفقة؛ إلا أنه يمكن اعتبار هذه التحولات تحصيل حاصل، ذلك أن الإعلام العربي _ الذي يعد أهم المنابر الفكرية _ مختطف منذ زمن لدى اللوبي الصهيوني، شأنه في ذلك شأن الإعلام العالمي، فمن بين ما يزيد عن ثلاثة آلاف منبر إعلامي عربي شهير ( صحف، مواقع اخبارية، إذاعات، قنوات فضائية) لايتجاوز عدد المنابر التي يمكننا عدها خارج إطار الصهينة عن أصابع اليد الواحدة، أو أصابع اليدين في أحسن حال، مما يدل على فضاعة تغول المد الصهيوني في هذا القطاع الحيوي العام. ولعل أهم ما سيقدم عليه الإعلام العربي في هذه لمرحلة هو خلع البقية الباقية مما كان يستر به سوأته، والاتكاء على خطاب واضح يستبدل مصطلحاته القديمة بمصطلحات جديدة، وتغيب فيه مصطلحات لتحضر أخرى، وكل ذلك تماشيا مع طبيعة المرحلة فمصطلح دولة إسرائيل سيكون بديلا عن مصطلح فلسطين، ومصطلح الدولة الصديقة بديلا عن دولة الاحتلال اليهودي، ومصطلح تل أبيب بديلا عن القدس، ومصطلح الهيكل بديلا عن المسجد الأقصى، ومصطح الإرهاب بدلا عن المقاومة، ومصطلح التمرد بديلا عن الثورة والانتفاضة، كما ستغيب مصطحات أخرى مثل: اللاجئين، حق العودة... إلخ. ومثلما فتحت القنوات الفضائية العربية أبوابها واسعة أمام طوفان المسلسلات المكسيكية والتركية وأفلام هوليود وبوليود؛ فإنها ستكون بالكرم نفسه أو يزيد قليلا في استضافة الأفلام والمسلسلات اليهودية، فبدلا من مهند ونور سنرى عاموس وراحيل، وبدلا من مسلسل قيامة أرطغرل سنشاهد مسلسل قيام الهيكل.. إلخ. كما سنشهد أعمالا فنية مشتركة تكفر عن خطايا (رأفت الهجان)، و(كنت جاسوسا في إسرائيل)، و(أنا بكره إسرائيل) وألف رحمة ونور عليك يا شعبولا.. كما ستجد القنوات المهتمة بتحضير الأطباق الشهية في المطبخ الإسرائيلي ما يغني تجربتها ويثريها، ولا عزاء لمنال العالم. في المناهج الدراسية ستحذف كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن أهل الكتاب عامة، كما سيغيب الحديث عن كل غزوات الرسول التي كان اليهود طرفا فيها غيابا كليا، وستحل بدلا عنها مرويات تاريخية يتحدث بعضها عن تفوق العنصر اليهوي، وبعضها عن أهمية التعايش وحسن الجوار. لا مكان في المناهج الجديدة ل(أخي جاوز الظالمون المدى)، ولا ل(أمتي هل لك بين الأمم)، ولا ل(ياتلاميذ غزة علمونا)، وستنفض كتب الأدب والنصوص يدها عن محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان، وليس بعيدا أن تستضيف هذه الكتب نصوصا شعرية ونثرية لشعراء صهاينة تحت لافتة الأدب العالمي.. هذه بعض ملامح مرحلة قادمة سيطلق عليها المؤرخون عصر الانحطاط الثاني تمييزا عن عصر انحطاط سابق وآخر تال.. ويا أمة ضحكت من انحطاطاتها الأمم.