عن 90 عاما رحل الأستاذ علي بن عبدالله الواسعي، رحمه الله رحمة واسعة . لا تقف هذه السطور عند العمر لتتحدث عن طول أو قِصر، بل لتتحدث عن عمر فيما فُنِي ؟ حيث الحديث الشريف : " لا تزول يوم القيامة قدما عبد حتى يُسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، و عن جسده فيما أبلاه، و عن علمه ماذا عمل فيه، و عن ماله من أين أخذه و فيما أنفقه".
لا شك أنه حين يتقدم العمر بالإنسان، غالبا ما تكل قوى صاحبه، و يضعف أداؤه، و غالبا ما تشيخ حواسه ، و ربما ملّ حياته، فالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، أدركه هذا الملل و هو في الثمانين من عمره، فإذا هو يُوْدِع الزمن تجربته ببيت واحد :
سئمت تكاليف الحياة و من يَعِشْ ثمانين حولا لا أبا لكِ يسأم
فيما تحدث آخر، شاكيا عما أصاب سمعه و قد بلغ الثمانين ، فقال مخاطبا محدثه، و كأنه كان يطلب منه إعادة الكلام ليسمعه فشعر بحرج ، فراح يبرر ثِقل سمعه، و يدعو لمحدثه :
إن الثمانين - و بُلّغتَها - قد أحوجت سمعي إلى تُرجمان
إن للحياة هدف، و إن للإنسان رسالة، و بقدر الوضوح - لدى المرء - في هذين الأمرين تكون فاعلية هذا الإنسان و سعيه في الحياة، حتى يأتيه اليقين . استشهد عمار بن ياسر رضي الله عنه و هو ابن ثلاث و تسعين سنة، فلما جاء الخبر لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال : و كم تريدون أن يتعمر عمار ؟ و دفن الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه عند أسوار القسطنطينية، و كان قد ذهب مع الجيش لفتحها، و كان حاجباه ينسدلان على عينيه لكبر سنه، و إنما كان يشدهما برباط إلى أعلى . و قاد عمر المختار الجهاد في ليبيا ضد الاستعمار الإيطالي حتى أعدمه الإيطاليون و قد بلغ من الكبر عتيا .. و الأمثلة أكثر من أن تحصر.
و استاذنا علي الواسعي رحمه الله خطا إلى ميدان الفعل الثوري و هو مايزال في باكورة شبابه، مشاركا في ثورة 1948م. ضد الكهنوت الإمامي. و لما لم تنجح زجّ به الى السجن سبع سنوات عجاف مع أعداد كبيرة، كما هو معلوم. شاب في مقتبل العمر قضى هذه المدة في سجن حجة، كان هذا السجن كفيلا بأن يخرجه واهنا مستكينا . لكن ذلك لم يحدث، و إنما ظل في ميدان الفعل الثوري يوقظ الضمائر ، و يرشد إلى الحرية، و ينير الطريق ؛ و لذلك كان حاضرا في ثورة السادس و العشرين من سبتمبر و مدة كفاحها ضد فلول الإمامة دفاعا عن الثورة و الجمهورية في جبهة الإعلام، الجبهة التوْءَم للجبهة العسكرية، و هي جبهة مهمة جدا، و لا بد لمنتسبيها من قيم الرجولة، و البسالة و التضحية، فالكلمة بناء لا هدم ، و هي للجبهات مؤازرة ، لا مخذلة، و أقلامها حرة أبية، لا مترددة و لا مُناكِفة، ناهيك عن أن تكون خادمة لمطبخ أو مستخدَمة لخلية . طال بالاستاذ العمر حتى بلغ التسعين، ولكن كان نَفَسُه النضالي أطول، و هنا حجر الزاوية في الفعل الثوري، و العمل النضالي ! فمن طال نفسه أثمر عمله، و من قصر نفسه خاب و خسر . لقد ظل الاستاذ علي الواسعي في ميدان الفعل، لم يكل، و لم يمل، و لم ينسحب من الميدان، حتى أتاه اليقين . إن فعل التغيير ليس نزهة، و لكنه تبعة و مشاق، و جهد متصل، و جهاد متواصل، و ذلك ما ترجمه الفقيد علي بن عبد الله الواسعي رحمه الله رحمة الأبرار.