بحديثك العذب، في زمن يحاول أن يستبدل فراتنا بالملح الأجاج، و حدّث قِدَمنا بالتجدد و التجديد، و حدث أرواحنا بأشواق الروح إلى ملكوت الرحمن، لنعبّ من فيض نوره، و بينات هداه، ما يرشدنا إلى سواء السبيل، فيسكب على نفوسنا الطمأنينة، و يمنح الأرواح الدِّفء و يمد الجوارح بالورع " لعلكم تتقون ". حدثنا يا رمضان بأحاديث البناء ؛ بناء النفوس، و رص الصفوف " و نفس ٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها*قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ". حدثنا برَواء النفوس ؛ فإنها اذا ارتوت صلحت، و إذا استنارت شبعت، و إذا استضاءت اهتدت " هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" . فأنر دروبنا بذكرك " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ". و اشف نفوسنا و أوجاعنا برحمتك " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ". حدثنا يا رمضان بأحاديث السماء ؛ لترتقي الجوارح، فتعفّ الأيدي، و تطهر الألسن، و يستقيم السلوك، و تسلم النفوس من الخيانة، فإنها بئست البطانة . و حدّث أفكارنا بالورع و التقى " من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه". حدث أشواق الروح، بغذائها و تغذيتها التي توهقها و ترهقها أدران الأرض، و يغسلها و ينيرها هدي السماء " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ". و حدثنا بأحاديث السمو الروحي " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ". فتسمو الروح تتبّع فيض عطاء " فإنه لي وأنا أجزي به" فيغشاها من العطاء الرباني ما يغشى ؛ مما لا عين رأت و لا أذن سمعت، و لا يقوى على أن يصف تلك الحال قلم :
و أرواح تطير بلا جناح الى ملكوت رب العالمينا
حدثنا يا رمضان عن نهارك " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " و حدثنا عن ليلك " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ". و حدثنا عن ساعة الإفطار، حيث " للصائم فرحتان " و حدثنا عن الخط الساخن بالابتهال و الدعاء " إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد " .
حدثنا يا رمضان ؛ لتتحدث أخلاقنا، و قدراتنا، و ثقافتنا، و سلوكنا، حدثنا :
فإنا نعيش بقَفْرة زاد الهجير بها و قلّ الماء
حدثنا عن ذكرياتك يا رمضان ؛ لتتحدث أفعالنا، و مهاراتنا، و فكرنا و تفكيرنا، و أداءنا و أدواتنا، و لتتحدث الرؤى و الميادين . فحدثنا يا رمضان عن ذكرياتك العِذاب، فحديثك عذب ، و ذكرياتك فرات، و أي زاد أفضل - لنا - من العذب الفرات !؟ حدثنا عن بدر الكبرى و " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " و أكد لنا : " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ". حدثنا عن فتح مكة، ففي الحدث عن هذه و تلك، و تلكم زاد و تحديث، و تبصرة و ذكرى، حدثنا عن فتح مكة و كيف تُحَطّم الأصنام !؟ حدثنا عن عين جالوت، و كيف طوت جحافل المغول ، و قد قال قائل المنهزمين : " من حدثك بأن المغول قد هزموا فلا تصدق " !! لكن المغول - فعلا - هزموا ، بل و أكثر من ذلك، فقد حدثتهم آيات القرآن فاءاذا هم و قد عادوا مسلمين ! و لك يا رمضان - بعد أن نجلس بين يديك تلامذة صامتين - أن تحدثنا عن ذكريات الشموخ ، و قد رافقت فتح الأندلس، و قبلها صحبت الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم و جيش العسرة إلى تبوك ... حدثنا بأحاديثك و عن ذكرياتك، فمعك يحسن الحديث و يَعْذب .
حدثنا يا رمضان قولا و عملا، و حدثنا نظريا و تطبيقا ؛ حدثنا و حدثنا طوال هذا الشهر الكريم، فليس بمقدور هذه السطور إلا أن تتوسل إليك لتتحدث و تحدث ، فنكتسب من أحاديثك و التحديث " لعلكم تتقون ".