الثالث والعشرين من هذا الشهر هو اليوم الذي اختارته منظمة اليونسكو يوما عالميا للكتاب، ومن محاسن الصدف أن مجيئه هذا العام كان قبل رمضان بيوم لتتساوق بذلك دعوة هذه المناسبة للاحتفاء بالكتاب مع ما يوفره الشهر الفضيل من جو قرائي ممتع، مزدان بصفاء الذهن وعمق التأمل وسعة الوقت، وغير ذلك من العوامل التي تعزز عادة القراءة حتى ليوشك شهر القرآن أن يكون على مدى ثلاثين يوما شهر القراءة أيضا وبلا منازع. لرمضان حكايات وحكايات مع الكتاب قراءة وتأليفا، وإلى عهد قريب كانت حواضر العلم الشهيرة في اليمنكزبيد وتريم وغيرهما تخصص للقراءات الجماعية أوقاتا منتقاة تتوزعها نهاراته المباركة وأسماره العامرة، وكانت موائد القراءة ثرية ومتنوعة، وتضم إلى جانب العلوم الدينية واللغوية فنون الأدب شعره ونثره، ثم اتسعت الفكرة بعد ذلك حين اشتهرت المجالس الأدبية في رمضان، وكانت هذه المجالس تقدم قراءات متنوعة اشتملت إضافة إلى ماسبق ذكره قراءات تاريخية وفكرية وفلسفية، وأذكر أن مدينة زبيد منفردة كان يقام فيها في الليلة الواحدة أكثر من عشرة مجالس طوال الشهر الكريم تقام في بيوت عدد من العلماء والأدباء المعروفين، وكانت هذه الأسمار متاحة ومفتوحة للجميع، وتشد إليها الرحال من القرى والضواحي المجاورة، بل ومن المدن أيضا، وتتخللها الأناشيد الصوفية الجميلة التي تضفي عليها جوا من الجمال والتشويق، فانتعش بذلك فن الإنشاد الديني، وصار لصيقا في أذهان العامة بهذا الشهر الكريم ولياليه الماتعة. وقد ظلت هذه المجالس قائمة حتى بعد ظهور الفضائيات فقد ظلت للكتاب مكانته التي لا ينازعه عليها أحد، إلا أن الأحداث التي شهدتها اليمن في السنوات العشر الأخيرة أثرت بشكل سلبي على حياة الناس بشكل عام، وعلى هذه المجالس بشكل خاص. ولم تكن هذه القراءات الجماعية لتغني عن القراءات الفردية، فلكل نوع منهما نصيبه ووقته، وتتوالى في ذاكرتي صورٌ طريفة لذلك التنافس النهم في قراءات عيون المؤلفات بين أصدقاء الكتاب، حيث كان نظام الاستعارة الصارم يقتضي من المستعير إكمال ما استعاره خلال مدة أقصاها ثلاث أيام، وكان هؤلاء يتفاخرون فيما بينهم بكمية ما قرأوه.. فهذا أنجز قراءة عشر كتب خلال الشهر وذاك ثمانية وذاك ستة... وهكذا. وتنطوي تجارب كبار العلماء والأدباء على قراءات ملحة ومتنوعة كان أغزرها وأوعاها وأعمقها في رمضان. أما في مجال التأليف فيكفينا دلالة على كرامة هذا الشهر في ذلك ما بأيدينا من كتب ومؤلفات ذيلها أصحابها بعبارة "تم الفراغ من تأليف هذا الكتاب في ليلة كذا من شهر رمضان" وهي عبارة تختزل العلاقة المتينة بين رمضان وبين المنجز التأليفي في مختلف فنون المعرفة وأفنانها. واليوم يتيح رمضان فرصة فريدة وثمينة لأولئك الذين ما يزالون ينظرون للكتاب على أنه خير جليس، والصاحب الذي لا يمل، في أن تتوثق علاقتهم به أكثر وأكثر، ليعلنوا بمنجزهم القرائي أن رمضان كان أكرم من اليونسكو حيث منح أصدقاء القراءة الشهر العالمي للكتاب.