لم يدر في خلد أبي جهل أنه قد ينكسر في مواجهة المسلمين ببدر، و حتى عندما أتتهم رسالة أبي سفيان تخبرهم أنه قد نجا بالقافلة، و يطلب منهم العودة، و يحذرهم مغبة المواجهة - مخافة أن تنكسر شوكة قريش - رفض أبو جهل الرجوع، إلا بعد أن يصل بدرا و يبقى بها ثلاثة أيام تنحر فيها الإبل، و تُشْرب الخمور، و تغني المغنيات، حتى تسمع بهم العرب فتظل تهابهم أبد الدهر ! و زادت انتفاشة أبي جهل عندما وصل إلى بدر، لما رأى من قلة عدد و عتاد المسلمين، و هناك برزت فيه شخصية فرعون، إذ قام يدعو : اللهم أيّنا كان أقطع للرحم و أتانا بما لا نعرف؛ فاحْنِه الغداة ! وقد رد القرآن الكريم على هذا الافتتاح لأبي جهل - فرعون هذه الأمة - بقوله تعالى :" إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ". قام أبو جهل - هنا - يكرر دور فرعون في التضليل، و في التنكر للحق و الحقيقة، و قلْب الامور رأسا على عقب، يوم أن راح يشكك بموسى و رسالته :" وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " ففرعون يخشى على الدين من موسى و يحذره أن يفسد في الارض، و أبو جهل إمعانا في تضليل جيشه راح يبتهل أن يهلك الله الفريق المبطل ! إنها ملة الطغيان في كل زمان و مكان. كانت مكة تنتظر قدوم جيشها يجر معه المسلمين مكبلين بالقيود، و كانت خيبتهم، و صدمتهم كبيرة ؛ إذ قدم عليهم أول المنهزمين : الحيسمان ابن عبدالله الخزاعي يخبرهم بمصرع سبعين من قيادات قريش و فيهم كل الصف الأول من قياداتهم، حيث لم ينج من القيادات غير أبي سفيان الذي كان مع القافلة، و حتى أن مكة لم تصدق النبأ، و رفض من كان فيها تصديق الخبر عند سماعه، غير أن أبا سفيان بن الحارث أكد الأخبار، فما هو إلا أن وصل حتى بادره أبو لهب : عندك يا ابن أخي الخبر اليقين، ما أخبار الناس؟ فقال أبو سفيان بن الحارث ( و هو بالمناسبة ابن عم رسول الله و أخوه من الرضاعة، و لم يسلم إلا عام 8 من الهجرة )، قال : و الله يا عم ما هو إلا أن لقيناهم حتى أعطيناهم أكتافنا يقتلون و يأسرون كيف شاؤوا ! و كُبت أبو لهب، حتى مات كمدا بعد أيام قليلة. ما يزال قلب أبي لهب، و بنفس نظرته إلى المشروع الرسالي، يحمله (بعض) أقاربه اليوم، و إن زعموا أنهم يلبسون ثياب علي ليخادعوا بها البسطاء و بعض المغفلين. وفي المقابل كانت المدينةالمنورة تنتظر الأخبار أيضا، و وصلها رسولا رسول الله صلى الله عليه و سلم : زيد بن حارثة و عبدالله بن رواحة ينقلان إليها النبأ السعيد بالنصر المبين. وقبل وصولهم كانت الآلة الإعلامية لليهود قد بدأت تسرّب أخبارا مكذوبة ، تؤكد فيها أن المسلمين قد انهزموا، و سقطوا جميعا بين قتيل و أسير، و لما رأوا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله(ص)، عندما أرسله النبي ليزف البشرى، راحوا ينشرون بقوة ها هو زيد عاد منهزما على ناقة محمد الذي قتل بالمعركة، حتى إن هذه التسريبات أحدثت بلبلة واسعة قبل أن يبددها زيد و عبدالله بن رواحة بنشر الخبر الصحيح. اكذب ثم اكذب مهما كانت الحقيقة ! فاليهود بالمدينة روجوا لكذبهم الذي كانوا قد بدأوه من قبل، فلما رأوا ناقة رسول الله(ص) و عليها زيدلم يكفوا عن كذبهم الإعلامي ، و جعلوا من الناقة دليلا لصدقهم، و أن هذا دليل على مقتل محمد، كما زعموا. هكذا تعمل الآلة الإعلامية للطغاة في كل الأزمنة. مايزال كعب بن الأشرف، و حيي بن أخطب، و كنانة بن الربيع .. و غيرهم، يوقدون في مطابخهم، و لهم أدوات، و آليات، و .. قنوات !! غير أن هذه السطور تجزم يقينا لا تفاؤلا ؛ أنهم لن يجدوا في الصف المقابل( سمّاعون لهم ). بانتصار المسلمين في بدر ظهر النفاق و المنافقون . فهذا الصنف من البشر لا يجد نفسه مع الحق، و إنما يجد نفسه مع الباطل، يعمل لصالحه، و ينحاز إلى جانبه، و يتجند لخدمته، و يسخر إمكاناته لدعمه و مساندته ، بل يصل بهم الأمر إلى أن يبددوا أموال بنيهم و قومهم للخصوم. هذه النوعية من المخلوقين يبتسم كذبا، و يجاريك زيفا . و لكنه يتابع جهودك ليضربها في العمق، و يطعنك من الخلف، و يتربص بك الدوائر. ظهر النفاق بقوة بمجرد انتصار المسلمين في بدر، فالنفاق لا يريد للحق أن يقوى أو ينتصر، فهو خصم له في كل زمان و مكان. ما يزال هناك من يستفتح كما استفتح أبو جهل : أينا أقطع للرحم فاهلكه ! و ما يزال هناك من يشكك بالحق و الحقيقة، و يتبنى مقولة فرعون التي سجلها القرآن الكريم على لسانه : ( ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم...). غير أن موعود الله لا شك فيه، و لا يتخلف ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام )، ( ولينصرن الله من ينصره).