اعتلال الأمم والشعوب حقيقة مشاهدة أثبتتها وقائع التاريخ منذ طفولة البشرية وحتى يوم الناس هذا، فليس ثمة أمة من الأمم امتلكت من أسباب القوة والتمكين إلا وأصابتها الأدواء والعلل، وفعلت فيها فعلها إنهاكا وإضعافا، بل وربما وصل بها الحال إلى حالة ضاربة من الموت المستطير، يتوقف عندها الفعل المنجز، وتتحول الشعوب إلى مقبرة ساكنة، ليس فيه غير صمت البلى ووجيب الفناء. ويقف وراء هذا الموت وتلك الأدواء والعلل واحد من سببين: أما عدو متربص من الخارج، أو عدو خائن من الداخل، والخيانة هنا بمفهوما الواسع تتجسد في كل عمل يضر بمصلحة الوطن مهما كان تافها وحقيرا، ذلك أن الجبال كما يقولون من الحصى. وربما اجتمع السببان: عدو الخارج وخائن الداخل كما هو الحال في راهن أمتنا العربية التي وصلت بها العلل إلى حالة من الشلل التام في كل مضامين الحياة، حتى لقد أوشك النعاة أن يتنادوا إلى دفنها في جبانة التاريخ، بعد أن تمالأ عليها الأعداء وأعوانهم من المستأجرين. لقد بات المشهد اليوم من الوضوج ما يكفي لاستجلاء الحقائق دون لبس أو مواربة، وتسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية بعيدا عن اللغة الدبلوماسية المهترأة، فقوى الاستعمار والاستكبار العالمي لم تهذبها حضارة اليوم، ولم تكبح جماحها وثبات الإنسانية التي تدعيها، فما تزال هي هي.. بخستها ودناأتها وقبحها وإجرامها، وما تزال شهوة ابن آدم الأول في القتل وسفك الدم تملأ كيانها، وتنفخ أوداجها، وترسم مختلف تحركاتها حتى صار القتل وجبة يوميها تقتات منها بنهم شديد لا يشبع وبغلة لا ترتوي. كل مافي الأمر أن كائنات القتل والإجرام هذه أخفت مخالبها الشنيعة خداعا وتدليسا تحت رداء الإنسانية فترة من الزمن، استفادت منها في وضع الخطط، وفي نصب المكائد، وفي شحذ سكاكينها لتصبح أكثر مضاء في القتل، وقبل ذلك وبعده في صناعة شركاء لها من الداخل واستقطابهم لمشروعها، ممن يستمرئون خيانة الوطن وعمالة الخارج، ويتحولون بسرعة مريبة إلى خلايا نائمة، وسرطان متربص، ويتحركون بإمكانات هائلة للكيد والتفتيت وبث سموم الفرقة والشتات، وتهزيل وتسفيه كل جهد يصب في صالح الأمة، والتمكين لأسيادهم الذين وضعوا مصائرهم في أيديهم لقاء المال النجس. والغريب في الأمر أن هؤلاء الخونة التي تفضحهم مواقفهم، وتدل عليهم آثارهم، (فالبعرة تدل على البعير)؛ لم يعودوا في الميدان بتلك الصورة الضعيفة المهتزة، وإنما جيشوا وراءهم طوابير طويلة من العاطلين فكريا وقيميا، وحشدوهم مسلوبي الإرادة كقطعان الغنم في مواطن الجدل، يمارسون ضجيجهم المستفز في مواجهة كل فكرة تنتمي للوطن ولمصلحة الوطن. ورغم قتامة الصورة وشناعة المشهد؛ فإن ومضات الأمل لا تزال تلوح بين الفينة والأخرى بشارات تمنح المخلصين عزما وحزما ورجاء في الغد المشرق، وتبث الطمأنينة ملأ كيانهم في أن هذه الأمة تمرض وتعتل لكنها لا تموت، وأن نصر الله يبزغ شهيا كالفجر مشرقا كالشمس بعد أن تزوغ الأبصار وتبلغ القلوب الحناجر.. فتلك سنة الله.