لا يختلف اثنان في الأهمية القصوى للثقافة في حياة الناس أفرادا وجماعات، ذلك أن الثقافة هي الأرض الخصبة للوعي والحضارة، وقد ثبت بالتجربة من خلال مسيرة الإنسانية الطويلة أن فترات الازدهار التي شهدتها الإنسانية في مختلف الأزمنة والأمكنة كانت قرينة لحالات ثقافية حية. تسامقت موجهة ومرشدة، واستعصت عن أن تكون وسيلة للاستخدام يلجأ إليها الفاسدون لتجميل قبحهم وتبرير مظالمهم. واليمن كغيرها من البلاد العربية ظهر فيها اتجاهان يقفان موقفين مختلفين من الثقافة: الأول يرمي إلى تسييس الثقافة وجعلها تابعة ذلولة للحكام، وتحويل حملة الأقلام إلى دجالين ومهرجين بل ومطبلين، يسوقهم الحاكم في أي اتجاه شاء، مسلوبي الإرادة، مهطعين مقنعي رؤوسهم، وهنا تتحول الثقافة إلى دكاكين تعيسة لبيع الوهم، ووسيلة لتدجين الجماهير وخداعهم، وقد مثل هذا الاتجاه الحكومات المتعاقبة التي رفعت شعار "لاصوت يعلو فوق صوت الحاكم" سواء كان هذا الحاكم شخصا أو حزبا أو جماعة. كما مثل هذا الاتجاه عدد من الأحزاب المرتعشة التي فقدت توازنها المنطقي، وهوت كريشه في مهب الريح، تتجاذبها رياح المصلحة في كل اتجاه، حيث أخضعت الثقافة لرؤاها الايدلوجية المتقلبة، وهي أحزاب في الأعم الأغلب مُسيّرة، ولا تملك شيئا من أمرها، وتعيش على تسقّط فتات الموائد من هنا وهناك. وأبرز صفات هذا الاتجاه امتهانه للقيم الإنسانية، وإسقاط المهابة عن الثقافة والمثقفين، وعدم القبول بالآخر وإسقاط نقائصه عليه، واعتبار الكذب مادة أساسية في خطابه، يصنع منها الويل والثبور وعظائم الأمور. أما الاتجاه الثاني فهو يرى في الثقافة خصيصة من خصائص الإنسانية المكتملة، وعروة وثقى تتصل بالقيم والمثل العليا، وترى أن من أوجب واجباتها في اللحظة الراهنة أن تقف مع الإنسان في قضاياه العادلة منافحة ومناصرة، وأبرز خصائص هذا الاتجاه أنه بانتمائه لمنظومة القيم العليا فوق كل الأيدولوجيات والحسابات الضيقة، وأنه لا يكتفي بالاستعصاء عن التبعية السياسية، ولكنه يرمي من خلال نشر الوعي وإشاعة المعرفة إلى التأثير في السياسة وتوجيهها في إطار القيم والمثل، ونقد مثالبها، وكشف كل الأدوات المخاتلة التي تستخدمها في الخداع وتزييف الوعي. وضمن هذا الاتجاه وقف حزب الإصلاح مع القيم والمثل الإنسانية العليا التي أكدت عليها جميع الأديان والشرائع الإنسانية وأوجبتها اليوم حاجة الإنسانية الملحّة للعدل والحرية والاستقرار. وفي الوقت الذي تنداح فيه سيول من خطابات التدجين الثقافي مسبحة بحمد الأحزاب تارة والأشخاص تارة أخرى يقف الإصلاح بقيمه مع الوطن ومع القيم بعيدا عن الشخصنة والتدجين وتزييف الوعي، ساعيا بإمكانات شحيحة إلى نشر الخطاب الواعي، والكلمة الطيبة التي دون شك ستعطي ثمارها يانعة بإذن ربها مهما علا الضجيج واستطار الغبار. وفي كل المواقف المستهجنة التي افتعلها السياسي في مواقعه المختلفة، وساق مثقفيه إلى مناصرتها سوق النعاج؛ وقف الإصلاح بمثقفيه ناقدا ومحللا ومنتصرا للوعي، وكانت ومازالت ضريبة ذلك فادحة وثقيلة، لكنها القيم تهون في سبيلها كل تضحية، ويرخص كل غال. وضمن هذا الاتجاه أيضا وقف بالأمس ويقف اليوم عدد كبير من المثقفين الأحرار من خارج الإصلاح، أبوا بيع قيمهم وذواتهم الإبداعية في سوق الكساد السياسي، وراحوا يحاكمون السياسات الهوجاء إلى القيم المثلى، مؤمنين بأن الثقافة حالة تجل إنساني شامخة، لا رابطة عنق متسخة يتصدق بها الحاكم، ثم يحيلها مشنقة أينما شاء ومتى أراد.