لا يكفي لنجاح الثورة أي ثورة أن يُستبدل نظام سياسي بنظام آخر، فتلك خطوة أولى يتوجب بعدها القيام بخطوات أخرى تكميلية لا مناص منها للإبقاء على الثورة حية ودافقة ومتجددة وعصية على الانكسار والتراجع. ومن أهم هذه الخطوات التكميلية ترسيخ فكر الثورة في الوعي الجمعي، بتبني استراتيجية ثقافية دائمة ومرنة، تعمل على كسب ولاء الأجيال المتعاقبة، من خلال التعريف بتاريخ الثورة، وشهدائها، ورجالها، والمبادئ التي قامت عليها، والغايات النبيلة التي تسعى إلى تحقيقها. وهذه الخطوة لأهميتها لا تقبل التأجيل والتسويف وإنما يتوجب البدأ بها فورا، لأنها تمثل سياجا فكريا وشعبيا للثورة يقيها من التردي والانزلاق، ويجعل من كل فئات الشعب عينا رقيبة تحول دون المساس بالثورة من أي جهة كانت. وبعيدا عن الحماس الاحتفائي بعيد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، الذي يهل علينا هذا اليوم، يمكن القول أن هذه الثورة العظيمة رغم وثبتها الهائلة في التغيير؛ لم تول خطوة ترسيخ فكر الثورة العناية المطلوبة، فقد أثقل المسار الثوري منذ الأيام الأولى بصراعات شتى: جمهورية ملكية، وجمهورية جمهورية، ومانتج عن ذلك من انقلابات واغتيالات داخل الصف الجمهوري نفسه، أتت على أسماء كبيرة لها وزنها الثوري أو السياسي كمحمد الرعيني والزبيري وعبدالرقيب عبدالوهاب والرئيسين: إبراهيم محمد الحمدي وأحمد حسين الغشمي. ولاشك في أن هذه الأحداث والوقائع قد شغلت الثوار عن أن يعنوا بمسألة ترسيخ الفكر الثوري الذي ظل يترنح ومضات خافتة، تنبعث في المناسبات الوطنية بموسمية باردة حتى جاء الرئيس الحمدي، وبمجيئة بدأت عجلة فكر الثورة بالدوران من خلال تكثيف الخطاب الثوري في وسائل الإعلام، وفي المدارس، والملتقيات العامة، ومن خلال تشجيع أناشيد الثورة والاهتمام بها، ويكفي أن نعرف أن جل الأناشيد الثورية ولدت في هذه الفترة مثل أنشودة أنا يمني لابراهيم طاهر وأنشودة يابلادي نحن أقسمنا اليمينا لعمر غلاب وأنشودة رددي أيتها الدنيا نشيدي لأيوب طارش، وهذه الأخيرة لقيت حفاوة رسمية كبيرة حيث كوفئ أيوب بخمسة آلاف ريال من الرئيس الحمدي نفسه. وقد لقيت هذه الأناشيد صدى واسعا، لأن ظهورها زامن فترة التعاونيات التي دشنها الرئيس الحمدي، ووصلت لمختلف القرى والعزل في اليمن، ببناء المدارس وشق الطرقات وغيرها من المشاريع الحيوية التي شاركت فيها مختلف فئات الشعب بنفَس ثوري وثاب. ويمكن القول أن فترة الرئيس الحمدي مثلت الفترة الأكثر استقرارا لترسيخ الفكر الثوري، وقد استمر زخمها بعد اغتيال الرجل بسنوات، ثم بدأت بالتراجع ليحل محلها خطاب تظليلي، يتغنى بالزعيم الرمز، والهمام الأوحد، والرئيس الخالد، فغاب الفكر الثوري، وأخفيت الثورة بتاريخها وشهدائها ومبادئها عن أنظار الأجيال المتعاقبة، حتى نُسيت وقائعها، وجُهِل أعلامُها الأفذاذ، وارتدت الأسماء غير مسمياتها في عقول الناشئة، فأصبح الزبيري وعلي عبدالمغني شارعين وسط مدينة صنعاء، والموشكي مدرسة وسط مدينة تعز، والعلفي مستشفى في الحديدة، وليس غريبا بعد ذلك أن يعلّلَ طالبٌ جامعيٌّ سببَ تسمية ميدان السبعين بهذا الاسم بأن عرضه سبعين مترا قياسا على شارعي الخمسين والستين!! ومن هنا بدأت المأساااااة.!!