تحقّق تنبؤ شاعر المنفى أحمد مطر، فلم يرجع الثور، وإنما فتحت الحضيرة بوابتها على مصراعيها لباقي الثيران للحاق برائد التطبيع، وعن قريب جدا ستخلو الحضيرة، وسيجتمع الثيران جميعهم في حضيرة أخرى يتبادلون التهاني بمناسبة هروبهم من الحضيرة إياها، ولم الشمل حيث الحظ الأكبر، والعلف الأوفر. على أن مراسم التطبيع التي يقيمها العربان هنا أو هناك لم تعد ذات بال، فهي إنما تأتي فقط للإعلان رسميا عن تطبيع بدأ منذ سنوات، وربما منذ عقود، وذلك يعني الانتقال من مرحلة التطبيع العرفي إلى الرسمي المشهر، حيث تعلو الزغاريد وتدق الطبول. ولن يقف التطبيع بعد استيفائه لكل الأنظمة العربية عند حد، وإنما سينتقل إلى الجامعة العربية التي كان بعض الإعلاميين يسمونها بيت العرب الأول، بعد إجراء التعديلات المطلوبة في أدبياتها المختلفة احتفاء بالعضو الجديد. والمسألة مسألة وقت لا أكثر، ولن يخيب المهرولون أمل إسرائيل في ذلك. وبهذه الخطوة تكون إسرائيل قد وضعت كل القطط المزعجة في قفص التطبيع، لكنها تدرك تماما أن ازدحام هذا القفص بقطط سبق وأن قلّمت أظفارها منذ أمد هو تحصيل حاصل، كما أنه ليس الغاية التي يعول عليها في تحقيق الأمن والرخاء، ومن هنا فإن من الحتمي الذي لا يقبل تأجيلا لدى إسرائيل إتباع خطوة تطبيع الأنظمة بخطوة أكثر أهمية تتمثل في تطويع الشعوب. لقد بدت ممانعة الشارع العربي والإسلامي للمشروع الصهيوني واضحة وجلية، فإسرائيل في الذاكرة العربية والإسلامية هي ذلك الكيان الغاصب، الذي احتل فلسطين وأجزاء واسعة من دول أخرى، وأقامت محارق الموت في دير ياسين وفي صبرا وشاتيلا، وماتزال مقصلتها تعمل في دماء النساء والشيوخ والأطفال، قتلت الشيخ الثمانيني القعيد أحمد ياسين، وقتلت الطفل محمد الدرة، ولها في كل يوم ضحايا جدد: قتلا واعتقالا وتشريدا، وقبل ذلك كله تسعى بخطى حثيثة لهدم المسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.. أفينسى العرب والمسلمون كل ذلك بمجرد أن يصافح زعماؤهم حكام إسرائيل؟! لقد راهنت إسرائيل بالأمس على تطبيع الأنظمة فحققت أبعد مما كانت تأمل، وتراهن اليوم على تطويع الشعوب، وقد بدأت هذا الأمر فعليا، من خلال مواد تروج لليهود تظهر هنا وهناك في وسائل إعلام عربية لحقت بموكب التطبيع رهبة أو رغبة، غير أن هذه المواد تجابه بالرفض من الشارعين العربي والإسلامي، وفي ذلك دليل يقظة شعبية، ينبغي على شرفاء الأمة من علماء ومفكرين ومثقفين وأدباء أن يحافظوا عليها، وأن يعملوا على إمدادها بالوعي اللازم دينا وتاريخا وجغرافيا ووجودا، ذلك أن آثام الأنظمة المجرمة ستغسلها الشعوب الواعية إذا صارت عواصف وأمطارا.. وساء مطرُ المنذَرين.