لشهر رمضان ذكرياته، و لواقعنا المعيش احتياجاته، وكلا الذكريات و الواقع يفرضان علينا أن نستدعي الذكريات فنغذي و نزوّد بها الواقع الذي نعيش . استرجاع ذكريات فتح مكة، أم القرى لا تأتي - اليوم - كقصة تروى، أو رواية تقص . ففتح مكة أعظم و أكبر من أن يكون مجرد أخبار و حكايات.
و هذه الذكريات و تلاوة أخبارها و أحداثها، و استلهام دروسها و عبرها ؛ زاد و أي زاد للواقع الذي نعيشه، إذ هو زاد في مواجهة المشاريع الظلامية التي تريد أن تعود بالأمة إلى تمزيق المجتمع إلى طبقات يتربع على قمة تلك الطبقات طبقة أعطت لنفسها كل الحقوق والامتيازات و حرّمت على الآخرين أن يصلها أي حق من الحقوق، زد على هذا ذلك التربص الذي يستهدف الأمة جهارا من أطراف لا تريد لها الخير، و هي أطراف مختلفة اللون والحرف، متفقة بأهداف الكيد و المكر، واضحة معالمه من خلال التواطؤ المفضوح، و دعم و مساندة كل مشروع ظلامي متمرد.
في مكة نزل الوحي، ومنها انطلق محمد صلى الله عليه و سلم يبلغ دعوته (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها) 92 الأنعام. و في مكة وقفت قوى الاستكبار مستميتة في الدفاع عن باطلها و مشروعها الظلامي الطبقي، و وقفت مع هذا المشروع الظلامي كل قوى الظلام حينها( أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا ).
أغلقت أم القرى أبوابها أمام دعوة الحق، مستنفرة كل القوى الظلامية معها( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).
فقدت أم القرى مكانتها بسبب هيمنة القوى الظلامية عليها، إذ راحت قوى الظلام تحصي على الناس أنفاسهم، و ترصد عليهم كل تحركاتهم، و تحاصر آمالهم وتستهدف أحلامهم، خاصة وقد أصبحت يثرب أما للقرى ترسل النور مشرقة و مغربة لتلك القرى.
و التاريخ يعيد نفسه بصورة أو بأخرى!
فهل استطاعت قوى الظلام حبس النور و منعه من أن يتدفق في الآفاق، و أن يُسقِط في النهاية السدود والحواجز التي فرضتها و أقامتها قريش حول مكة - أم القرى - حتى لا يصلها النور، و لا يقتحم أسوارها حملة النور العظيم!؟ كلا لم تستطع فقد جاء الوقت الذي فتحت فيه كل أبوابها للنور الذي تمنّعت عنه سنين عدادا، ثم في النهاية ها هي تهتف، بشرا، و حجرا، و أنحاء :" جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". كان ذلك في 20 رمضان 8 هجرية.
لقد تلاشى الظلام، و تلاشت القوى الظلامية، و حتى تلك القوى المساندة و المتربصة لمشاريع الخراب، انقمعت بفضل الله، و بفعل " رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه " و بفعل " فتية آمنوا بربهم ". و بقي مع الفتح دور لأم القرى تقوم به ؛ إذ دخل الناس بعد الفتح " في دين الله أفواجا " وانقادت قبائل و أنحاء كانت تراقب ماذا ستفعله أم القرى، فلما فتحت أم القرى ألقى ما تبقى من شبه الجزيرة العربية قيادها كلية متبعة " النور الذي أنزل معه". و عاد بلال الذي كان يتوجع و قد فارق مكة إبان الهجرة :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد و حولي إذخر و جليل
و هل أردن يوما مياه مِجنّة و هل تبدون لي شامة وطَفيل
ها هو قد عاد مظفرا، و عاد ليجلجل بالأذان في أشرف بقعة، و أطهر مكان، حين اعتلى يوم الفتح الكعبة المشرفة صادحا بأذان : الله أكبر.. الله أكبر ...
لكل أجل كتاب .. كانت الهجرة، وكانت البدائل، و كان الجهاد ، و كان الثبات و الاستمرار، و البذل و التضحية ؛ كما كان في المقابل المكر و الكيد و قوى الظلام ... و كلها تلاشت و اندحرت ، و كان تاج ذلك كله : فتح أم القري الذي جاء بعد إحدى و عشرين سنة من البعثة، و بعد ثمان سنوات من الهجرة!
لأستسهلنّ الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر