سنوات تتساقط.. واحدة إثر أخرى، وليس إلا دخان الحرائق ورائحة البارود، وليس إلا سلسال الدم يربط السابق باللاحق، ويحيل الأيام توابيت سوداء تتوزعها المقابر على طول الوطن وعرضه، حيث يهيمن الموت حربا، والموت جوعا، والموت خيانة وخذلانا. لقد أطفأت الحرب كل جميل في حياة الناس، ولم يعد في حياتهم متّسع ليحزنوا على عام منصرم، أو ليفرحوا بعام قادم، فقد فرضت المأساة زمنا جليديا لا تضحك فيه غير المدافع، ولا تتفتّح فيه غير القبور، ولا تزدحم فيه غير الجنائز . زمن يتناسل قبحا ورداءة، ويتمدد يأسا ذابحا، ووجوها دخانية تتقافز في مسرح طافح بالمأساة مثخن بالفقد، ووطن ملقى يئن على قارعة الغدر والخذلان، تتناوشه ذئاب الأعداء والأصدقاء، وضباع الأبناء والغرباء، يتمدّد أشلاءً.. ويوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وسيان لديه أن ينصرف عام أو يأتي آخر مادام فكرة تائهة مغيبة عن الزمن. لقد تكاثرت السكاكين المشرعة عليه، وأمعنت الغربان القادمة من خلف الحدود في تقطيعه، وكلما حاول أن يتكأ على جراحه لينهض مغادرا حفرة البؤس بادره الأصدقاء قبل الأعداء يخيرونه بين الموت ذبحا أو الموت جوعا، وليس ثمة طريق ثالث. لا فرق بين أن تموت بقذيفة عدو، وبين أن تموت بنيران صديقة، مادامت النتيجة للأمرين واحدة.. ذهابك لذات القبر الذي أعدوه لك سلفا، فهم متفقون فيك، متمالئون عليك، وسيبدأ خلافهم على تركتك بعد أن يفرغوا من دفنك، وعندها ستقوم بينهم مواجهة عنيفة يكون تراب قبرك ميدانا لها. لك الله من وطن مغدور، لجأ من هجير الموت إلى ظِلال الخيبة، ناسيا أو متناسيا أن الموت الذي يلمع نصلا في هجير الشمس يمكن له أن يختبئ حيةً غادرة في ظلال واحة غناء.. لقد ذبحتك ثقتك فيهم قبل أن تذبحك سكاكينهم، ومزقك ظنك الحسن قبل أن تمزقك خناجرهم الحقودة.. فانفض دخانهم عن قلبك وافتح أجفانك المقرّحة وحدّق في المكان مليا.. ففاتحة النجاة أن تعرف أين أنت وأين ينبغي أن تكون.