أن تسفر الحرب عن فواجع وكوارث لا حصر لها فليس ذلك بمستغرب عليها، فهي ولادة الأحزان حفارة القبور هدامة الديار، ثم صفها بعد ذلك بكل صفات القسوة والإجرام حتى لا تدع وصفا من الأوصاف التي تضمنتها معاجم اللغة، ستجدها تتسع لكل ذلك، بل وتصرخ بملئ فيها: هل من مزيد.. هل من مزيد ولكن أن تصنع الحرب صنيعها في أخلاق الناس وضمائرهم، فتخلف فيها كل هذا القبح والخراب فذلك مايدعو إلى الحيرة والاستغراب، وضرب كف بكف حسرة على طيبة الناس وخيريتهم. وكثيرة هي مظاهر التصدع والتداعي في أخلاق مجتمع أنسته الحرب ماكان عليه من التعايش والوئام، لكن أشد هذه المظاهر قسوة ما يواجهه النازحون من تعامل سيء وتمييز سلبي أوشك أن يترسّخ في قناعات الناس بأن نزوح هؤلاء من مدنهم وقراهم صيّرهم مواطنين من الدرجة العاشرة، أو أنه أنزلهم منزلة مشردين لجئوا من دولة أخرى. كنا نتباكى عليهم لما يلاقونه من المنظمات الإغاثية التي تسطو على الجزء الأكبر من أقواتهم ليوزعه أفرادها هبات وعطايا للأهل والأقربين، ثم يرمون بالفتات على النازحين بإذلال وإمتهان. ولما يلاقونه من نسيان وتجاهل من الحكومة، أما اليوم فقد حق لهذا التباكي أن يرفع شاغبه ولولة ونواحا على شريحة كبرى من الناس أشهر الجميع في وجهها سكاكين الاستغلال: الحكومة والمنظمات الأغاثية والمجتمع الذي فقد إنسانيته وتحول إلى سكين ليس لها إلا شريعة الذبح. في منطقة من مناطق الشرعية يعمل قرابة سبعة عمال بإحدى القرى في تكسير الأحجار لصالح رجل ميسور. يؤدي سبعتهم نفس العمل وبذات المجهود، غير أن المقابل المادي لهؤلاء العمال يختلف بشكل صادم. فخمسة من العمال من أبناء القرية يتقاضى كل واحد منهم مبلغ ثمانية آلاف ريال يوميا، بينما يتقاضى العاملان مبلغ أربعة آلاف ريال يوميا لكل واحد منهما أي نصف ما يتقاضاه واحد من الخمسة السابقين. والسبب في أن هذين العاملين نزحا إلى هذه القرية من منطقة أخرى، وإذن فلابد من معاقبتهما على هذه الجريرة العظيمة. قلت لصاحب العمل إن هذا ليس عدلا. فابتسم وقال لكن ذلك معمول به في كل القرى والمناطق المجاورة، ثم التفت إليّ بحدّة قائلا: هم راضون بذلك.. فلا تفسدوهم علينا. هذا مثل من عشرات الأمثلة.. وفي قرية أخرى عجز نازح قدم وأسرته من محافظة أخرى أن يجد عملا، فاضطرت زوجته أن تعمل في بعض بيوت القرية: كنسا وغسلا وجلبا للماء والحطب وغير ذلك من الأشغال الشاقة، ثم لا تتقاضى لقاء ذلك إلا أقل القليل، بل إن بعض البيوت لا تعطيها شيئا فهي (نازحة). ولا يقتصر الأمر على حرمان النازحين من حقوقهم بل يتعدى ذلك إلى امتهانهم واستعبادهم، وحتى أطفالهم الصغار يلاقون من الضرب والتمييز الاجتماعي مالا يلاقية أطفال فلسطين. أما في المدن فالنازح له وضعه الخاص: فلا يتم قبوله إلا في الأعمال الدونية حمالا أو فراشا وبأجور تقل عن أجور أصحاب الدماء الزرقاء، فإذا ما أراد استئجار سكن متواضع له ولأسرته كان الإيجار مضاعفا.. لماذا؟ لأنه ناااازح. نازح.. مصطلح اجتماعي صار يحمل الكثير من معاني الانتقاص والازدراء. التصق بهذه الشريحة المظلومة، ولحق أطفالها حتى وهم في المدارس، إذ غابت أسماؤهم وأصبح الواحد منهم معروفا ب(ابن النازح). فهل بعد هذا اليتم من يُتم!؟