ليس ثمة شك في أن عواصف الجدل التي تهب طاغية بين الحين والآخر هي أصدق دليل على حالة التوهان الفكري والثقافي التي نعيشها، فلا تكاد تهدأ واحدة من هذه العواصف؛ إلا وهبّت تالية لها أوسع منها مدى وأشد تأثيرا، حتى ليكاد المتأمل الحصيف أن يجزم أن ثمة فريق متكامل أُعِدَّ إعدادًا حِرفيًّا لصناعة قضايا الجدل، وفُرِّغَ تفرّغًا كاملا، لإشعالها وإنزالها إلى الناس تباعا واحدة إثر أخرى، بحسب ما يقتضيه المناخ ويتطلبه المزاج العام، ومع كل تحديث جديد لنوبات الجدل؛ يهبُّ طواحين الكلام، في صراع محتدم، يحشدون فيه أظفارهم وأنيابهم، وما تيسّر لهم من قواميس السبّ والشتيمة، حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ أو تسمع لواحد منهم أن كل حرف استخدمه دبّورٌ ليس بوسعه غير اللسع، فتدرك عندئذ أن ليس غير طنين صاخب لدبابير مستنفرة، ينهش بعضها بعضا. والمؤسف أن كثيرا من الأسماء المحسوبة على الفكر والثقافة تقع في هذا الفخ، وتمضي فيه دون وعي. وتشعر بالضيق حد الغثيان حين تجد بعض المصابين بالحَوَل العقلي يوصّفون هذه الحالة العدائية بالحوار.. متناسين أن الحالة الثقافية في الوطن العربي قد أصبحت بسبب مفاعيل كثيرة عاجزة عن إنجاز حوار واحد على مدى عقود طويلة، بدليل أن كل الأحاديت المتبادلة التي احتضنتها عدد من المنابر الثقافية والإعلامية لم تفضِ إلى نتائج ملموسة، وقد سُمّيت هذه الأحاديث حوارات ظلما وعدوانا، وإلا فأين هي نتائج الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وبين السنة والشيعة وبين الأصالة والحداثة، وبين فصائل العمل السياسي، وبين الاتجاهات الفكرية المختلفة، وبين القوى العسكرية، وبين... وبين... كلها ذهبت أدراج الرياح مما يدل على أنها في حقيقة أمرها جدالات عدمية، ولأن الثقافة العربية في وضعها الراهن أصبحت مقعدة ولا تقوى على إنجاز حوار واحد؛ فقد سيطرت على ذهنية المثقفين العرب النزعة الجدالية التي تتغيّا إسكات الخصم والتشنيع به، لا الإنصات إليه والاستفادة من الأفكار الإيجابية التي لديه. إنه الجدل ليس إلا فكل القرائن تشير إلى ذلك، ومن هذه القرائن بقاء الجهات المتجادلة في أماكنها وبذات الأفكار، ولم تتزحزح عن ذلك قيد أنملة. وتعجب حين تجد الشباب المؤدلجين يحملون ذات الأفكار التي يحملها الحرس القديم في مؤسساتهم المختلفة. ومنها غياب الطرح الموضوعي ولغة العقل والاتكاء على لغة الخصومة بما هي عليه من الحدة الموقفية وادعاء الامتلاك المطلق للحقيقة. ومنها تناسي القضايا المصيرية والتعارك حول قضايا هامشية تافهة، ولعل أصدق مثال على ذلك قضية استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة، فقد انصرف أساطين الجدل عن القتل والقاتل إلى قضايا (يجوز و لا يجوز). ومنها ظهور الملاسنات الحادة ضمن أحاديث المتجادلين، وقد رأينا في قضية أبو عاقلة من المثقفين من تخلّى عن لغته كمثقف محترم... فأي توهان يعيشه هؤلاء؟ ومنها اتساع هذه الجدالات للآراء الشاذة فقد رأينا ضمن القضية السابقة من حمل قميص شيرين، وراح يلمز في الإسلام والقرآن، مدعيًا نصرتها، وهو إنما يقدم بهمزه ولمزه للقاتل المجرم خدمات كبيرة وبالمجاااااان. ستكتب شهادتهم ويُسألون.