(1) لاشك أن القراء المتابعين لهذه الحلقات حول الإسلام والعلمانية قد لاحظوا تعدد تعريفات مصطلح (العلمانية) واختلاطه أحيانا بمفهوم الليبرالية، ولاحظوا كذلك أن بعض هذه التعريفات ليست سيئة ولا مرفوضة مطلقا في ميزان المبادئ الإسلامية، ولا مع ما هو معروف في التجارب التاريخية السياسية للدول الإسلامية منذ الخلافة الراشدة. وبمعنى آخر فإن التعريفات والمعايير المطروحة حول (العلمانية) فيها الجيد والسيئ، وفيها ما هو متفق على مبادئ إسلامية بالإجمال وما هو متعارض معها. المعضلة أن المحصلة النهائية لسلسلة التعريفات قد استقرت عند مفهوم واحد هو فصل الدين عن الدولة تماما وحصره في الحياة الشخصية للفرد، وحتى هذا المفهوم شابه الاضطراب –نتيجة للاضطراب الموجود في فهم أصل المصطلح- في التطبيق؛ فتعددت تنزيلات العلمانيين له في الواقع مابين معاد للدين إلى درجة الإلحاد والعمل على اجتثاثه من المجتمع؛ مثلما كان الأمر في الأنظمة الشيوعية، ومعاد لأي دور سياسي ذي مرجعية دينية، وفصله عن الشؤون العامة كالتعليم ومنع ظهور رموزه الدينية في مؤسسات الدولة لكن دون إنكار الدين أو محاربته طالما ظل محصورا في أماكن العبادة؛ مثلما هو الوضع في فرنسا (رغم ذلك لم يمانع الفرنسيون من السماح باستحداث معاملات مصرفية وفق فقه المعاملات الإسلامية مثل إصدار سندات إسلامية كما ذكرنا وقتها في هذه الصحيفة). أما النوع الثالث من الأنظمة العلمانية فهي لا تعادي الدين بل بعض منها تتبناه في دساتيرها، وبعضها لا ترفض وجود أحزاب دينية أو أن يكون هناك مؤسسات دينية تشكل مرجعية للأحزاب، وهذه سنأتي لها بالتفصيل في الأسابيع القادمة. ما يهمنا اليوم هو مناقشة بعض التعريفات الأصلية للعلمانية والتي نرى أنها إجمالا لا تتصادم مع الإسلام [إن لم تكن بعضها –مثل رفض وجود وسائط دينية بشرية بين الإنسان وربه- قد ظهرت في أوربا نتيجة احتكاك الأوربيين بالمجتمع الإسلامي إبان مائتي سنة من الحروب الصليبية، فلأن المسلمين كانوا يومها أرقى ماديا وحضارة من الأوربيين فمن الطبيعي أن يتأثر بسلوكياتهم وحضارتهم الهمج الأوربيون ويتعلموا شيئا منها؛ وحتى يقال إن الأوربيين تعلموا عادة الاستحمام، وفي الجانب الديني كان مما تعلموه: احترام السيدة العذراء مريم أم عيسى عليه السلام التي كانت عندهم مجرد قديسة عادية أو كما قالت راي تناهيل مؤلفة كتاب الجنس في التاريخ: (كل الذين جاءوا إلى العالم الإسلامي؛ ولو حتى إلى إسبانيا وصقلية فقط؛ عادوا بسلب لم يحسوا به ولكنه كان أثمن من كل ما حققوه أو سلبوه وهو نظرة جديدة للحياة من الاحتكاك بحضارة أكثر تقدما ورقيا مما كان بوسع نبلاء أوربا تخيله: حفنة من الأفكار والانطباعات والوعي والتصور..) نقلا عن كتاب: خواطر مسلم في المسألة الجنسية لمحمد جلال كشك، وكذلك يمكن الرجوع لكتاب: شمس الله تطلع على الغرب للمستشرقة الألمانية/ زيغريد هونكه]. لقد كان هذا المدخل مهما قبل الكلام عما هو مشترك أو متقاطع بين مباديء إسلامية وبين مباديء ليبرالية وتنويرية وعلمانية؛ لأن المواجهة بين المشروع الإسلامي والمشروع الليبرالي العلماني تنذر بأخطار كبيرة على حاضر الأمة ومستقبلها؛ إن لم يتدارك الجميع الأمر، ويتعاملون مع ثنائية الإسلام والليبرالية العلمانية بعقلانية المجتمعات العلمانية التي سنرى أنها تعاملت مع الدين –حتى الوثني منه- باحترام إلى درجة جعله هوية مثبتة في الدستور، بينما يثير كثير من العلمانيين العرب –في مصر وتونس الآن-! معارك غبية تهدد عملية التحول الديمقراطي لكيلا ينص في الدستور –رغم أنف الأغلبية- على أن التشريعات الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع! لذلك قد يكون من المفيد أن نحاول تحديد ما هي النقاط المتفق عليها بين المشروعين؛ لكي يكون ذلك وسيلة للتقارب والتفاهم والتعاون على بناء الأوطان بناء سليما يتوافق عليه الجميع أو الأغلبية، ولإقامة الحجة على المفتونين بالعلمانية القادمة من أوربا بزنبيلها أو بغبارها كما يقول المصريون. وكذلك سيكون مفيدا أن نحدد (النقاط المختلف) حولها بين الإسلاميين والليبراليين العلمانيين لنرى هل هناك إمكانية للوصول إلى فهم مشترك حولها أو على الأقل يحدث تقدير متبادل يحول الخلاف من مواجهة دامية إلى مسألة خلافية يتحكم فيها إلى الشعب! (2) سنبدأ هذا الأسبوع باستعراض ما نجده خطوط التقاء وتوافق وتقاطع (قد تبدو غريبة لدى البعض من الطرفين) بين المبادئ الإسلامية العامة وبعض معايير الليبرالية العلمانية كما يوردها العلمانيون وتنتشر في كتاباتهم ومنتدياتهم، وعرفت منذ ظهور الفكرة في أوربا على هامش الصراع بين الكنيسة والملوك! وتأتي في مقدمة هذه المسائل وأكثرها أهمية: مسألة تعريف العلمانية بأنها رفض هيمنة السلطة الدينية على المجتمع والدولة، وضرورة الفصل بين الكنيسة وبين الدولة ونشاطها وخاصة السياسي، والحديث باسم الله والنيابة عنه! بدون تردد نقول إن هذا الأمر مرفوض إسلاميا، والحق أنه منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (الذي جمع بين كونه نبيا وحاكما للدولة) لم يتمتع حاكم مسلم بالعصمة لا واقعيا ولا تأصيلا؛ باستثناء بعض الفرق الشيعية (المتطرفة) التي منحت أئمتها عصمة الأنبياء ثم تجسد ذلك في الدول على ندرتها التي تأسست على تلك النظرية كالدولة الفاطمية. لكن معظم الدول التي ظهرت في التاريخ الإسلامي لم تعرف عصمة الحاكم قداسته بعد أن أسس الخلفاء الراشدون بدءا بالصديق أبي بكر لقاعدة أن الحاكم بشر غير معصوم، وإدارته للدولة بشرية تخطئ وتصيب، ويحق للأمة تصويبه وتقويمه وحتى عزله سلما أو قتلا. والحكام الذين سعوا لإضفاء العصمة والقداسة على شخوصهم أو سلطتهم لم تطاوعهم الأمة في ذلك، واقتصر الأمر على ألقاب فارغة لم تنفع خليفة ولا سلطانا من القتل والتمثيل بجثته عندما كان يثور عليه الناس أو ينقلب عليه الطامعون في العرش! كذلك يمكن ملاحظة أن التاريخ الإسلامي لم يعرف ظهور الكهنوت الديني أو الواسطة الإجبارية بين العبد والرب، ولا قداسة رجال الدين وعصمتهم، ولا وجود كنيسة معصومة هي التي تحكم الملوك والخلفاء، وتعينهم وتمنحهم قداسة وحقا إلهيا يحكمون بها هم وذريتهم، وتحميهم من المعارضة والنقد والعصيان طالما أطاعوها واتبعوا أوامرها كما كان يحدث في أوربا! هذا الفصل بين السلطات الدينية (أيا كان اسمها) وإدارة الدولة وسياسة أمور الناس أمر لا غبار عليه، ولا يتعارض مع الإسلام، وكذلك ما ينبني عليه من رفض منح قداسة أو حصانة لأي إنسان سياسيا كان أو عسكريا أو فقيها تجعله يتحكم في رقاب الناس، أو يمنحهم صكوك الغفران أو يحجز لهم مكانا في الجنة والنار. [للتنبيه فقط؛ فإن ذلك لا يعني تحريم العمل السياسي وممارسة السلطة على (العلماء) طالما أنه يلتزم بأصول العملية السياسية القائمة على الدستور، والرضا بقرار الشعب في انتخاب أو عزل الحكام ومحاسبتهم باعتباره بشرا بدون قداسة لأحد ولا حصانة لأي كان. وأشهر رجال الدين المسيحيين الذين مارسوا السياسة وحكموا في القرن العشرين هو الأسقف مكاريوس رئيس قبرص، وهو فعل ذلك دون التخلي عن لقبه الديني أو ملابسه الكهنوتية، وكذلك يمارس رجال الدين اللبنانيين من كل الأديان وخاصة الموارنة العمل السياسي، ومثلهم الفاتيكان الذي له مبادرات ورؤى ومواقف سياسية مع أو ضد في كثير من القضايا العالمية.] (3) من معايير أو تعريفات العلمانية المقبولة إسلاميا: هو ضرورة اهتمام الدولة بأمور الناس الدنيوية وتحقيق السعادة لهم في الدنيا، وهو مبدأ إسلامي أصيل، وأمر معلوم بالضرورة في الفقه السياسي الإسلامي، حتى أعلن الخليفة عمر بن الخطاب خشيته أن يحاسبه الله عن تقصيره تجاه الدواب.. فما بالنا بالإنسان! والذي يراجع شروط الأئمة وواجباتهم في المذاهب الإسلامية سوف يطمئن قلبه إلى أن الفكر السياسي الإسلامي لم يهمل النص على ضرورة اهتمام الدولة لشؤون الرعية الدنيوية (بصرف النظر عن مدى الالتزام بذلك من قبل البعض)، ولم يعرف الانصراف عن الدنيا والاستغراق في أمور الآخرة إلا عند طائفة من الصوفية. ونظن أن الحضارات التي نشأت في المجتمعات الإسلامية من الأندلس وحتى الهند وأواسط آسيا؛ تؤكد أن (الإسلام) دين للدنيا والآخرة، لا يهمل دنيا الناس ولا يصرفهم عن زينتها {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} لكنه كذلك لا يجعلها منتهى الآمال بل جسرا إلى الحياة الأبدية. (4) ومن تعريفات العلمانية هو عدم إجبار الدولة أي مواطن على اعتناق وتبني معتقد أو دين بالإكراه. وهو تعريف كان نتيجة مضادة لدولة الإكراه الديني بل المذهبي في أوربا، والحقيقة إن الإسلام هو الذي أقام أول دولة تعددية دينية في التاريخ ليس فيها قاعدة (الناس على دين ملوكهم)، وباستثناء مشركي العرب الذين عادوا الإسلام وحاربوه فكان جزاؤهم إما الحرب أو الخروج من جزيرة العرب إن لم يسلموا؛ فقد عاش أهل الأديان والمخالفون للإسلام وخاصة اليهود والنصارى في رحاب الدولة الإسلامية آمنين يتمتعون بحرية ممارسة شعائرهم الدينية حتى اليوم، ولم يجبرهم أحد على الإسلام؛ بل في بعض السنوات كان بعض الولاة يرفضون قبول إسلام أهل الذمة بحجة أنهم يصنعون ذلك هروبا من دفع ضريبة الجزية مما يؤدي إلى نقص أموال الجزية، حتى علم الخليفة عمر بن عبد العزيز بالأمر فمنع ذلك. (قطعا هناك فترات حدثت فيها مشاكل ومخالفات لكن المهم المبدأ الأساسي أنه كان هناك تسامح إسلامي مبدئيا وواقعيا في المجرى العام للتاريخ الإسلامي يعترف به حتى اليهود والنصارى والمستشرقون المنصفون، وسمعت مرة د. إيفون حداد –أمريكية من أصل سوري- إنها تتفاخر في بداية محاضراتها بالقول إنها مسيحية لأن.. الإسلام هو الذي حمى مسيحيتها). وقد عرف التاريخ الإسلامي في بعض فتراته مشاكل بين متعصبي المذاهب الإسلامية وأسهم الحكام في تأجيجها لكن الإسلام يرفض ذلك تماما، ولا يجوز تحميله تبعة ذلك وهو الذي يقبل الآخر غير المسلم فكيف بالآخر المسلم؟ (5) ومن تلك المعايير التي يمكن أن تكون جسر تفاهم هو كفالة الحريات العامة والممارسة السياسية الرشيدة (أي الديمقراطية السليمة)، والمساواة بين جميع المواطنين، وحفظ حقوقهم فردا وجماعات. والحق أن الاتجاه الغالب في المجتمعات الإسلامية التي توجد فيها تعددية دينية هو الموافقة على اعتبار المواطنين جميعهم متساويين في الحقوق والواجبات، وقبول إقامة نظام سياسي عادل يجسد الديمقراطية السليمة، وحكم الشعب لنفسه عبر الانتخابات النزيهة يشارك فيها الجميع دون استثناء. ولا يقدح في ذلك أن تكون هناك خصوصية في بعض الحقوق والواجبات الخاصة إن كانت مرتبطة بتعاليم دينية قاطعة؛ كمثل مطالبة المسيحيين في مصر وغيرها أن تكون لهم خصوصية في شرائعهم الدينية ولو كانت تجعل لهم (ميزات) خاصة عن بقية المواطنين. وهو مطلب يؤيده العلمانيون العرب، ولا نسمع علمانيا ولا ليبراليا إلا ويطالب باحترام خصوصيات الأقليات والاعتراف بها: دينيا ولغويا واجتماعيا بل وسياسيا بحيث يكون لهم (كوتا) خاصة أو مراعاة لهم. وبناء على ذلك يمكن أن نفهم أن (المساواة) مطلوبة في الحقوق والواجبات العامة لكن في ما فيه نصوص دينية قاطعة واضحة فلا بأس من مراعاته ،كما هو الأمر في بعض قواعد الميراث والأحوال الشخصية لدى غير المسلمين أو تلك التي تحددها الشريعة الإسلامية على أساس العدل ومراعاة بعض الطبائع الخلقية للذكور والإناث، والواجبات الملقاة على عاتق كل طرف وليس على أساس (المساواة) المطلقة؛ فمثلا في الميراث تحصل الأنثى في بعض الحالات على نصيب أكثر من الذكر والعكس كذلك، وفي حالات تتساوى الأنصبة. وكذلك تعفى الأنثى من واجبات دينية كصلاة الجماعة وجوبا والجهاد التطوعي على عكس الرجل، وتعفى من واجبات دنيوية مثل الإنفاق على الأسرة، والمهر، وتحمل الدية، ولا يعد ذلك تمييزا للأنثى على الذكر. تبقى مسألة الحريات الخاصة، وخاصة حرية الردة عن الإسلام واعتناق دين آخر؛ التي قد تثير خلافات حادة. وبداية فإن الحريات ليست مطلقة بلا قيود.. وحتى حرية التعبير مقيدة في بعض الدول العلمانية في قضايا غير أساسية؛ فمثلا يحرم القانون الفرنسي إنكار وقوع مذابح اليهود في عهد النازية بل يحرم حتى التشكيك في عدد القتلى، ومؤخرا سنت فرنسا قانونا يجرم إنكار وقوع مذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى المتهم بها القوات التركية. ومع ذلك يظل مفهوم الحريات الخاصة ومستوياتها ومداها ومظاهر ممارساتها قضية شائكة تحتاج إلى مزيد من الحوار الذي ينبغي أن يراعي فيه الطرفان حساسيات الموضوع في المجتمعات المسلمة، والتركيز على ما يفيد إنشاء الدولة الديمقراطية الصحيحة الخالية من العيوب بدلا من الانجرار مثلا إلى معارك حول ضرورة السماح بحرية الردة وكأنها قضية القضايا؛ مع ملاحظة أنه لا توجد في العالم الإسلامي محاكم تفتيش دينية تطارد الناس في الشوارع، وتعتقلهم من بيوتهم وتخضعهم للمساءلة عن حقيقة إيمانهم بالله؛ خاصة إن لم يظهر منهم تعبيرات عكس ذلك أو إنكار علني للأصول الإسلامية.