تنبيه: ليس الهدف من هذا المقال السخرية أو الاستهزاء لكنها صرخة جادة نطلقها في وجه عقلاء هذا البلد (ونحسبهم لا يزالون موجودين) علنا نستعيد بعض من رونق حياتنا الذي كان، حتى لا يقال بأن العالم من حولنا يتقدم نحو الإمام بينما نحن "معشقين ريوس" بسائق لا يستطيع الالتفات إلى الخلف ولا تملك سيارته مرايا يستهدي بها. أجدادنا قبل الإسلام استطاعوا أن يؤسسوا واحدة من أرقى حضارات العالم القديم، ورغم تعدد دولهم إلا أن اختلافاتهم لم تمنعهم من التوافق على حياة تكاملية؛ خصوصاً فيما يخص ازدهار طريق البخور والمحافظة على أسراره ومنع الأجانب من منافستهم عليه، ما مكنهم من بناء حياة زاهرة ومستقرة سادت عبر آلاف السنين. وبعد الإسلام حافظوا على نفس السياق الحضاري ومثلوا عنصر الرقي في دولة الخلافة الإسلامية التي امتدت ما بين الصين وفرنسا، ولم يمنعهم ذلك من الاهتمام بوطنهم الصغير (اليمن) وظلوا يتنافسون وهم يعرفون أن البقاء للأفضل وليس للأقوى، حيث مكنهم ذلك من تقديم أرقى نموذج سياسي في عصرهم متمثلاً بالدولة الرسولية التي كان حكامها عبارة عن علماء خلدتهم مؤلفاتهم العلمية في الطب والفلك والزراعة وعلم الحيوان وغيرها من العلوم. وفي مطلع العصر الحديث وبينما كان بقية الوطن العربي يصارع القوى الطامحة في أرضه التي احتدم الصراع فيما بينها على مقدرات المنطقة، حيث ساد التخلف وعمت الفوضى، لكن اليمنيين كانوا هم الشمعة المضيئة التي انبرت من بين ركام الصراعات لتنير ذلك الظلام، حيث شهدت اليمن نهضة علمية متنورة كان قوامها علماء سمع بهم العالم الإسلامي واهتدى بمؤلفاتهم أمثال: الشوكاني وابن الوزير والجلال والمقبلي. تمكن اليمنيون عبر تاريخهم من الموائمة بين جهود شعبهم الذكي والنشط وبين موقع بلادهم المتميز؛ باستراتيجيته العبقرية على طرق المواصلات العالمية، وبمميزاته التضاريسية والمناخية، حيث جعلوا من وطنهم نقطة التحضر الرئيسية في محيط صحراوي وشبه صحراوي يحيط بهم. واليوم ضاع كل ذلك، وصارت اليمن من أفقر دول البسيطة، وأصبحت سلطاتها تتسول الفتات على باب (اللي يسوى واللي ما يسواش)، وصار حلم اليمني مهما علت شهادته وخبراته أن يجد فيزة للخروج، وصار اليمني في بلاد الغربة ملطشة لأناس يخرجون عليه عُقد نقصهم وتتسع سجونهم حتى لحملة الدكتوراه من (أبو يمن) من غير رقيب أو حسيب، بينما تقوم الدنيا من حولهم إن مارسوا عُشر ما يمارسونه ضد اليمني تجاه (شغالة) أسيوية على سبيل المثال. وبدلاً من أن كان الآخرون يصفون بلدنا بالعربية السعيدة واليمن الخضراء وغيرها من صفات الإشادة والتحضر، صاروا ينظرون لشعب اليمن على أن نصفه من المتسولين والنصف الآخر من الإرهابين، ولن نلوم إلا أنفسنا في ذلك، فالآخرون يضعونك حيثما تضع نفسك؛ ولذلك استعاد اليمنيون في الخارج بعض مكانتهم في عهد الرئيس الشهيد ابراهيم الحمدي، عندما وجد ذلك الخارج بأن كرامة شعبه لديه صارت مقدمة على حقائب الدعم المالي كما كان الأمر عند من سبقوه ومن لحقوه. وقد انعكس كل ذلك الهوان الذي قبلت به سطات الوطن اليمني أمام الغير على المواطن اليمني نفسه، الذي تحكمت به عقدة النقص وصار يتبرأ من كل شيء يخص اليمن، فإذا سافر إلى الخارج أعد نفسه ليلبس ما يلبسون ويهرج بلهجة غيره؛ وضحكت وأنا أسمع أحد معاريفي يحذر أفراد عائلته الذين سيأخذهم معه إلى بلد خليجي بأن لا يقولوا "ما أشتيش" حتى لا يكونوا مثاراً للسخرية ويوصيهم بأن يقولوا "ما أبغى".. وهكذا مع بقية المفردات. وقد نتفهم ذلك على اعتبار أن اليمني يضطر أن يجامل ابناء الشعب الذي يعمل لديهم لكي لا يجد نفسه وقد أصبح مزفراً خارج الحدود، لكن مالا نستطيع فهمه كيف صار اليمني يتخلى عن أصلة وتراثه أمام الآخر حتى وهو في بلده، ويضطر أن يجاري الآخرين القادمين إلى بلاده في سلوكهم ولهجاتهم.. حتى إن تم ذلك على طريقة "شوتر وزنبقة" وهم يحكون مصري وشامي في مسلسل همي همك. ليس هدفنا هنا أن نستعرض كل حياة الذل والهوان والانقسام التي صار يعيشها الإنسان اليمني فالأمر بات معروف للجميع؛ والمعروف لا يعرّف، لكننا أردنا التذكير فقط بأمثلة مختارة توضح كيف صار الإنسان اليمني يتبرأ من أصله وحضارته العريقة، وهو ما جعله يعيش على الهامش، ويقنع بالقليل والتافه، ويصبر على إهانة الآخرين لكرامته مجبراً بذل الحاجة والفاقة والعوز.. خصوصاً بعد أن صارت مصلحته آخر شيء يفكر فيه قادته بمختلف ألوان طيفهم دون استثناء. ولكي لا يقال بأننا لا نجيد إلا النقد من غير أن نقدم الحلول سنقدم هنا مقترحاً نعتقد أن العمل به وإخراجه إلى حيز التطبيق سيمثل الخطوة الأولى لاستعادة الإنسان اليمني تدريجياً ثقته بنفسه، وليبدأ في استعادة ذاكرته المفقودة، بحيث نذكره بالعوامل التي ساعدت أجداده بأن يشيدون حضارة كانت من بين أرقى الحضارات التي عرفتها الدنيا، وجعلت أجداده يتيهون فخراً وعزاً أمام الآخر، ويبنون مجداً تليداً أهملناه ورميناه من خلف ظهورنا.. أتحدث هنا عن استعادة إرادة السير العملي في طريقهم وليس التغني بأمجادهم ونحن نائمون. ملخص المقترح يتمثل بتعميم مقرراً دراسياً بعنوان (حضارة يمنية) بحيث يصبح متطلباً جامعياً إجبارياً يدرسه كل طلاب الجامعات اليمنية مثله مثل بقية المتطلبات القائمة حالياً (ثقافة إسلامية ، لغة عربية ، لغة إنجليزية) وكذلك مقرر (ثقافة سكانية) الذي قيل أنه سيتم تعميمه كمتطلب جامعة قريباً.. ونحن هنا نتحدث عن الخطوة الأولى أما بقية الحلول فقد تحدثنا عنها كثيراً في مقالات أخرى، وكذلك تحدث غيرنا، فنحن إنما نفتقد الإرادة، أما خطوات الطريق السوي فهي معروفة ومشاهدة للجميع. مقرر (حضارة يمنية) سيكون مقرراً يركز على تذكير الطالب اليمني بكل الوسائل التي استخدمها أجداده في تشييد حضارتهم الغابرة، ليتعلم كيف يستعيد استخدامها من أجل الوصول إلى بناء مجد حضاري جديد ينافس به العالم المعاصر من حوله، ولا نقصد هنا دروس التاريخ فقط ولكن تتكامل الجهود في صياغة مفردات هذا المقرر بين علماء وأساتذة من مختلف مقومات الحضارة. بمعنى أن يكون هناك برفوسورات متخصصين في التاريخ والآثار والجغرافيا والتربية والاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والسياسة.. هل قلت سياسة؟ "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة". إن لاقت الفكرة الاستحسان لدى أهل الشأن نحن مستعدون لشرح أوفى لا نريد أن نثقل به القارئ هنا.