ربما من الطبيعي أن يكون “الطيب صالح” هو أول من يخطر على البال، في خضم أحداث السودان اليوم، فهذا الأديب الكبير هو أرقى وأعمق وأنبل من عارض النظام السوداني، وعاش مشرداً، يبشر في المنافي بسقوط النظام الشمولي القمعي الذي أقامته جماعة “الإخوان المسلمين” في السودان، بانقلاب عسكري نفذه الجنرال البشير قبل ثلاثين عاما. في ذلك اليوم قالت أبواق هذا النظام أن الأسماك هاجرت من شرق البحر الأحمر إلى غربه، وبالتحديد إلى السواحل السودانية، بمناسبة الإنقلاب العسكري الميمون، وأن خيرات السماء والأرض ستتدفق على هذا الشعب المحظوظ بنظامه الإسلامي القويم.! اليوم نشعر حتى نحن في اليمن، رغم كل شيء، بالشفقة على الشعب السوداني في ظل هذا النظام الذي أفلس من أول لحظة، والذي من المفارقة المحيرة أن يتأخر سقوطه إلى اليوم. لو طال العمر بالطيب صالح لاحتفل اليوم، ب”بداية النهاية” لمن أرادوا إقامة جمهورية الله، على حساب جمهورية السودانيين، وحقوقهم وحرياتهم وكل مباهج الحياة في هذا البلد العظيم الذي تحول بفضلهم إلى سجن كبير يأكل أبناءه. كان الطيب صالح، يتمنى للسودان – بدلاً من النظام اللقيط الميت الذي يُراد إحياؤه وتحويل السودان إلى حقل تجارب له- نظاما سودانيا أصيلاً متناغما مع الأرض والتاريخ والإنسان.. يقول: “نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه”. كما كان يحب الحياة، ويريد أن يعيشها بكل عنفوانها وأبعادها: “أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تُقطف، كتب كثيرة يجب أن تُقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء”. رحمه الله، مات بغصته في لندن، عام 2009م، دون أن يحقق كثيرا من أمانيه، وإن تم تكريمه في السياق العربي بتتويجه بلقب “عبقري الأدب العربي”، والاعتراف به كصاحب “الرواية العربية الأفضل في القرن العشرين، فضلا عن التكريم العالمي بترجمة بعض رواياته إلى أكثر من ثلاثين لغة، وإدراج روايته “موسم الهجرة إلى الشمال”، ضمن أفضل مائة رواية في العالم. كم أتمنى – هكذا بعيداً عن التشفي والسخرية من عبث الأقدار- أن تكون أعمال هذا الأديب السوداني والعربي والعالمي الكبير، هي من تؤنس وحشة الرئيس “البشير” في زنزانته التي زجه فيها الجيش منذ فجر الليلة الماضية. ليس للرجل في كل حال مشكلة شخصية مع البشير، و”ربما” لم يكن ليتمنى أن يسقط هذا النظام الذي يكرهه بهذا الشكل الذي “قد” يؤدي إلى سقوط البلد بأكمله، وهي مخاوف موضوعية تتبلور على ضوء التجربة الثورية في اليمن وليبيا. السودان ثورياً أقرب إلى اليمن وليبيا منها إلى تونس ومصر والجزائر، وما حدث في السودان اليوم هو أن النظام انقلب على البشير، أو بالأصح ضحى به ككبش فداء من أجل المحافظة على استمراريته. ما لا يتمناه أحد للسودان لاحقاً أن يستنسخ التجربة اليمنية أو الليبية بحذافيرها، وإن كانت كثير من القرائن الوجيهة تشير إلى أن الثورة في السودان ستظل مستمرة، وأن النظام السوداني سيظل يحاول إعادة إنتاج نفسه في بلاد مفخخة بكل أشكال التناقض، ومهددة بكل أنواع التفكك والصراع والانفجار.