عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    موعد الضربة القاضية يقترب.. وتحذير عاجل من محافظ البنك المركزي للبنوك في صنعاء    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    صحفي سعودي: ما بعد زيارة الرئيس العليمي إلى مارب لن تكون اليمن كما قبلها!    لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    لحظة وصول الرئيس رشاد العليمي إلى محافظة مارب.. شاهد الفيديو    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في عقل أديب وناقد حضرميّ ( د. عبدالله حسين البار) " الحلقة الثانية "

بعد المقدمة التعريفية في الحلقة الأولى لعلم من أعلام حضرموت ومن أبرز شخصياتها الذي نرى فيه مناراً لدروب السالكين إلى فضاءات الفكر والأدب فهو نبض أمته منحها – ومازال – من جهده وطاقته الكثير نسأل الله تعالى أن يحقق له كل أمنياته ويلبسه ثوب الصحة ويطيل في عمره مديدًا. وخليق بهذه الأمة أن تفتخر به وتضعه في المقام الذي يستحقه ، ولا ننسى أن نبين هنا بأن الدكتور (عبدالله )هو نجل علم حضرموت البارز في الصحافة والأدب والشعر والمحاماة ، ألا وهو الكاتب والشاعر الفذ حسين محمد البار([1]) رئيس تحرير صحيفة الرائد في حضرموت .. الذي له مواقف لا تنسى مع السلطنة القعيطية ..عندما أمتشق قلمه للدفاع عن الحقوق والحريات ، لم ترهبه تحذيرات السلطنة حينها ، بل وقف بشجاعة في وجهها ..انتصارا للكلمة التي آمن بها .
والدكتور عبدالله حسين محمد البار فارس يفهم مخابئ اللغة وصهيل الحروف وهديل الكلمات مستخرجا منها كنوزها ولآلئها المكنونة ، يمتعنا ونحن نقرأ كتبه التي ألفها ومقالاته النقدية التي نشرها هنا وهناك ، بجرس جميل وبإيقاعات موسيقية غاية في الانسيابية ، مما يجعل قرائه يذوبون عشقاً بين السطور ، وحواف العبارات ،وردهات الجمل ، فتسكب عليهم اختيارا فيتقبلونها بمودة خالصة ومتابعة للنص وإكماله ، بل وقراءة الكتاب من الغلاف للغلاف .. أسلوبه شائق فيه عذوبة وكأنه موجات بحر يتطاير رذاذها لتنعش قلوب الذين ينهلون من كتبه .
وعندما يكون المرء ذا ملكة إبداعية ورصانة احترافية ، فأن اللغة تكون مطواعة له لأنها الحاملة للمعاني والدلالات ، ذلك أنها وسيلة الاتصال الأولى بين البشر ..
وحين يخاطبنا رجل بحجم الدكتور البار ، تبتلّ أرواحنا قطرات ندى وريحانا ، فتنساب كلماته انسياب المياه في السواقي ، فهو يخاطب ضيوفه ويقنعهم بأسلوب جاذب ، يتكلم بتؤدة وتمهل حتى يصل إلى قلوبهم بمهابته وبما عُرف عنه من اقتدار في التبحر كموسوعي أجاد الخوض في مختلف القضايا الفكرية والأدبية والفلسفية ، فيدلي بحجته فيصيب المرمى وينال السبق ، ويبلغ الغاية ، ويؤثر في مريديه الذين تهتز مشاعرهم وتتحرك أوتار قلوبهم ، وهنا تأتي طرق التأثير بالكلام وحسن الإقناع بالخطاب العقلاني والحجة الدامغة المقنعة .
حظيت بشرف زيارته بمنزله ، مرات عدة بصحبة كوكبة من أساتذة الجامعة والنخبة المثقفة ، فشعرت بهذا الجو الحميمي الذي يبعث على الارتياح ، محاطين بمكتبة ضخمة من أمهات الكتب يزدان بها المكان لتؤكد مكانة هذه القامة السامقة ودوره التنويري في المجتمع ، من خلال مؤلفاته التي أطلعتم على أسمائها في حلقتنا الأولى التعريفية ، وكما هو واضح بأن ثمة كتب مازالت تحت الطبع ، وأخرى بانتظار دورها .. وللأمانة فأن الدكتور لم يبخل على أمته بعصارة فكره ودوره النقدي لأعمال كثيرة خرجت إلى النور ، كان آخرها مقدمة لكتاب الدكتور عبدالله سعيد الجعيدي الموسوم ب ( عابر سبيل ) وكانت من أجمل المقدمات التي قرأتها فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وتطرق لها بحيادية وموضوعية ونزاهة أدبية راقية .
والآن دعونا نلج في صلب الأسئلة والردود التي طرحها الدكتور عبدالله حسين البار :
* بصفتكم نائباً لرئيس المجمع العلميّ اللغويّ بموجب القرار الجمهوريّ رقم (157) لسنة 2013م، ما أبرز مهام هذا المجمع بشكل موجز؟
(ج ) لم تكن فكرة إنشاء مَجْمَعٍ علميٍّ لُغَوِيٍّ في اليمن وليدة قرار رئيس الجمهورية ولكنها سابقة على صدور القرار الرئاسيّ بسنين. كانت الفكرة متواضعة تقوم على إنشاء جمعية للسانيين اليمنيين ومن انشغل في إطار دراساته باللغة وعلوم اللسان كالباحثين الأسلوبيين، وفي اليمن منهم ثلةٌ لا بأس بها، ولكلٍّ منهم جهوده حسب الطاقة والمعرفة والشخصية. لكن الحال لم يستقم للجماعة التي تصدرت للنهوض بإنشاء الجمعية لأسباب لا حاجة لنا في مقامنا هذا إلى ذكرها. بيد أن الفكرة لم تنطفئ جذوتها، فكرّر الحديث عنها عدد من الإخوة الطيبين في مجالس شتى، فبدأ التفكير فيها مرة أخرى، وتحديدا بعد ثورة الربيع العربيّ في 2011م بسنة أو ما يقاربها. وكانت ثمة دوافع وراء إعادة التفكير في تلك الفكرة، ونزوعها نحو إنشاء مجمع لغوي يتجاوز فكرة الجمعية التي جعلت من أهدافها إنشاء مجمع لغوي في المستقبل، وذلك بعد أن تكون الظروف مواتية لإنشائه. لكن حماس استاذنا الدكتور عبد العزيز المقالح وبعض الأخوة من أصحاب الاعتناء باللغة ومشكلاتها سارع بالتفكير في إنشاء المجمع واستصدار قرار رئاسي به. ولقد كانت اللجنة المقترحة للتأسيس في أول الأمر بعيدة في أعضائها عن الإطار لأكاديميّ مما أثار حفيظة الأخوة في قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب – جامعة صنعاء، وكادوا أن يمتنعوا عن المشاركة في فعاليّات إنشاء المجمع لولا حكمة العقلاء منهم فأعيد النظر في عدد من الأسماء التي كانت مقترحة لتأسيس هذا المجمع من قبل، فاقترحت أسماء أخرى كان اسم (صاحبك) واحدًا من تلك الأسماء بناء على مقترح القسم الذي انتميتُ إليه سنين عددًا. وصدر القرار على ذلك النحو المعروف، ولكن المجمع لا يزال معلّقةً أعماله، تقف في سبيل حركته عددٌ من المعوّقات لعلّ الجانب الماليّ أبرزها. هذه فكرة عامّة عن نشوء المجمع، أمّا عن (المهامّ) التي سينهض بها في المجتمع فهي – ولا مراء – لن تبعد عن المهام التي تنهض بها المجامع العلمية اللغوية المماثلة في البلاد العربيّة من اعتناء بالتراث اللغويّ المكتوب باللغة العربية ونشر أصوله ليتعرف الناطق بالعربية على كثير من أسرارها، وصلتها بالعربيّة المعاصرة، وعلاقاتها باللغات الأجنبيّة في إطار التأثّر والتأثير، ناهيك بدراسة اللهجات العامية وصلة بعضها بالعربية الفصحى صوتًا ومفردة وتركيبًا. لكنّ المجمع العلمي اللغويّ (اليمنيّ) ستكون له خصوصيّة من جهة دراسة العلاقة بين العربيّة الجنوبيّة والعربيّة الشماليّة، وهي قليلة الحضور في مناقشات كثيرٍ من اللغويّين العرب وإن اعتنى بها بعضهم وكان له في دراستها باعٌ طويلٌ. وفي هذا ما يتيح للدارس حق الوقوف بجدارة عند دراسته للغات اليمنيّة في جنوب الجزيرة دراسة مقارنة لا بأمثالها في إطار الساميات وحسب ولكن في إطار العربيّة التي نزل بها القرآن الكريم. وإني لأعلم أن من دارسي هذه اللغات اليمنيّة من استطاع أن يعيد النظر في كثير من المعاني التي نتداولها عن النصوص القرآنيّة في ضوء معرفته بهذه اللغات وكان تفسيره إياها أدق وأوثق صلة بالمعنى، وخذ على ذلك مثلا شرودًا هو قوله تعالى: "فلما أسلما وتلّه للجبين"، فسّر المفسرون لفظة (تلّه) ب(كبّه على وجهه)، ولكن بمراجعة اللغات اليمنيّة تبيّن أن المقصود ب(تلّه) رفعه. وهذا أولا يتلاءم مع فكرة الذبح التي رآها إبراهيم عليه السلام في منامه وصدقها، وامتثل لها إسماعيل عليه السلام. وهي ثانيا تتلاءم مع ما في هذا الجذر الثلاثيّ (ت.ل.ل) من معنى الارتفاع، ومنه (التلّة، وجمعها تلال). وفي هذا ما يبيّن لك أنّ كثيرًا من معاني العربيّة الشماليّة ينبغي النظر فيها من خلال عربيّة أهل الجنوب، وهذا ما سيتمكّن منه الباحث اللغويّ من أهل اليمن بوجود مجمعٍ علميّ في اليمن كهذا المجمع. ناهيك بما سيتيحه للغويين اليمنيين من فرص المشاركة مع علماء اللغة العربيّة في الوطن العربيّ ويكون له إسهامٌ في خدمة العربيّة بالمشاركة في مناقشة كثير من قضاياها وحلّ كثير من مشكلاتها. وإنّ في الجامعات اليمنية وخارجها أعلامًا لهم قدرات عظيمة للمشاركة في هذه المجالات.
* في رأيي المتواضع، بأن النقد يقوم على الذائقة الفطرية الرفيعة والموهبة الحدسية النافذة والتوقد الذهنيّ والدفقة الجمالية للمفردات اللغوية الراقية، التي تتفاعل تفاعلاً بنائياً ودلالياً مع النصوص .. وبما أنّ لكم باعا طويلا في نقد أعمال عُرفتم فيها بالنزاهة وعدم الانحياز أو المحاباة، بل كنتم أكثر صراحة في تحديد ملامح الصورة الحقيقية لتلك الأعمال التي جاءت في مقدماتكم الرصينة، فكيف تعاملتم مع أعمال عرضت عليكم وقد تخللتها عيوب كثيرة، فهل أرجعتموها لأصحابها أو أنكم نقدتموها بما عُرف عنكم من صرامة في هذا المجال النقدي الهام ؟
(ج ) أولا : القول (بأن النقد يقوم على الذائقة الفطرية الرفيعة والموهبة الحدسية النافذة والتوقد الذهنيّ والدفقة الجمالية للمفردات اللغوية الراقية، التي تتفاعل تفاعلاً بنائياً ودلالياً مع النصوص) كما ذكرتَ في سؤالك مسألةٌ فيها نظر. لأنّ النقد علم يقوم على أسس منهجيّة لا سبيل إلى النكوص عنها، وإلا فقد قيمته. وما ذكرتَه عن الذوق والموهبة وما إلى ذلك فأمورٌ خارجيّةٌ لا تتصل بجوهر النشاط الذهنيّ الذي يتعامل مع لغة النصّ وفق منظورٍ منهجيّ لك أن تصفه بالصرامة، ولغيرك أن يسمه بالجديّة.
ثانيًا:هناك فرقٌ بين نقدٍ ونقد. فنقدك في الصحيفة عملا ما يختلف من حيث المعالجة النقديّة عن نقدك عملا آخر مماثلا في بحثٍ أكاديميّ، وعليه فهذان يختلفان عن كتابة مقدّمةٍ لعملٍ أدبيّ كائنًا ما كان جنسه. ففي نقدك الأكاديميّ أنت تنقّب عن القوانين الإبداعيّة المتحكّمة في إنتاج العمل الأدبيّ الذي تدرسه، وعن الصلة التي تربط هذا العمل بأمثاله حتّى تستبين فرادته أو تكشف عن وقوعه في براثن أعمال أدبيّة سابقةٍ عليه. أمّا في نقدك للعمل الأدبيّ في إطار الصحيفة فأنت راغبٌ في إبراز مظانّ القوة والضعف، الجمال والقبح، الاتساق في بناء العمل والاختلال في بنائه، ويهيمن على تفكيرك المتلقّي الذي يتناول الصحيفة ليقرأ فيها ما يهمّه، وقد يكون واحدًا من المشاركين في كتابة نصوصٍ من جنس العمل الأدبيّ الذي نقدته، وهنا تكون لك مشاركة بطريقٍ غير مباشرٍ في تقويم عملٍ أدبيّ سيصوغه كاتبٌ ما فيتجنّب الوقوع فيما وقع فيه العمل موضوع النقد، ناهيك بتقويمك العمل الذي بين يديك من جهات شتّى. فيفيد كاتبه منك قليلا إن اتسم نقدك بالموضوعيّة وبالجدية في المعالجة النقديّة، وهذه وأمثالها لا تجيء إلا حين يتكئ الناقد على معطيات من لغة النصّ تعمقها قراءاته في فروع المعرفة المختلفة.
أمّا تقديمك لعملٍ أدبيّ مّا فحال آخر إذ تغلب العاطفة وإن لم تتجرد من الموقف النقدي الذي اعتمدته في إطار تجربتك الأدبيّة، وإلا ستبدو متناقضَا مع نفسك، لكنّك لن تنسى أنّك في كتابتك للمقدّمة كمن يخطب خطبة النكاح التي عرفت عند العرب، فتكون وسيلة لتقريب الصلة بين الخاطب ومخطوبته، وكلّما كانت الخطبة قصيرة موجزةً كان ذلك أهنأ للعروسين لينعما بأطايب الحبّ وملذّات اللقاء. ولأن المقدّمة – على جليل شأنها – لا تخرج عن دائرة هذا التشبيه فالحديث عن العيوب سيكون متواريًا خلف أحجبة المودّة والتقدير. وسيكون النظر منصبّا على محاسن النصّ دون سواها. على أنّ هذا لا يعني أن يقف الكاتب من الأعمال الضعيفة أو التي تخللتها عيوب موقف المدافع عنها رغم ضعفها وعيوبها، فهو سيغشّ بذلك القارئ وسيخدع صاحب العمل عن نفسه فيوهمه بما ليس فيه، وخير له أن يرفض تقديم العمل ولا يوقع نفسه في هذه الدائرة المزعجة ولا شكّ. وعلى المستوى الشخصيّ فإني ولله الحمد لم أتعرض لتقديم عملٍ يشتمّ منه الضعف أو القبح أو الاختلال في البناء، فتنزّه قلمي عن المشاركة في الترويج لأعمال أقل ما ينبغي لها مناله أن ترمى في سلّة المهملات. وأقول لك واثقًا أنّ الأعمال التي كتبتُ لها مقدّماتٍ كانت من القوة والجمال والاتساق في البناء بمكان جدير بالاحترام والتقدير، وإن منها ما مثّل تحدّيًا لأدواتي النقدية – وهي متواضعة – ولكنّه التحدي والإصرار على بلوغ المستوى الذي وصلته تلك الأعمال، وأظنّني وفقّت.
* مرت عليكم أسماء عالمية قرأتم لها، مثل: بودلير، أدوارد سعيد، سوسير، كونراد، جاك دريدا، وهي أسماء كان لها دور في العطاء العالمي الزاخر، كيف كانت قراءتكم لكتبهم، وماهي الخلاصات التي خرجتم بها ؟
(ج ) هذا مزج عجيب لأعلام، يمثّل كلّ واحدٍ منهم عالَمًا مستقلا عن الآخر. فبودلير شاعر وكونراد روائيّ، وسوسير عالم في اللسانيّات وإدوارد سعيد ناقد ذو إسهام بارز في النظرية النقدية الحديثة، وقل مثل ذلك في دريدا. لكنني سأجيب عن سؤالك بخلاصاتٍ كما طلبت، وإن تك هذه الملخصات وأمثالها في مثل هذه المجالات غير ذات جدوى. وأقول إنّ قيمة بودلير في وقائع حياته التي عاشها بكلّ ما فيها من شقاء وبؤس وعانى منها صنوفا من العذاب بعضه حقيقي وبعضه مفتعل لكنه خلاق. ولذلك فهو حين قال أنا السكين وأنا الجرح كان صادقا، ومتماهيا مع طبيعة الحياة التي عاش وقائعها بوعي عميق من طفولته حتى منتهى تلك الحياة. وزهور الشرّ التي تغنّى بها لم يأت بها من خيال مريض ولكن من معاناة واقعه الذي لم يتمثله سواه على ذلك النحو. ومن هنا بدت دراسة سارتر عنه من أعمق دراسات النقد القديم له، وقريبة منها دراسة الشاعر المصري عبد الرحمن صدقي وعنوانها (بودلير/ الشاعر الرجيم). أمّا كونراد فقيمته في إبداعه الروائيّ، وفي تحدّيه للغة التي كتب بها وأبدع. فهو في الأصل بولنديّ ولكنه تعلم الانجليزية وأجادها وصاغ فيها رواياته حتى عدّه النقاد الغربيون من أساطين الكتابة الروائية المكتوبة باللغة الانجليزية. وهذا تحدٍّ لا يقوى عليه إلا عبقريّ، وقليلٌ ما هم. أمّا سوسير فهو عالمٌ مستقلٌّ بذاته. إنّه (آدم) اللسانيّات الحديثة بجدارةٍ. لقد استطاع بما اكتشف من منهجٍ لسانيٍّ غير مسبوقٍ أن يسهم في إنتاج عددٍ كبيرٍ من المناهج المتنوعة في إطار البحث العلميّ من البنائيّة إلى الأسلوبيّة إلى السيميائيّة …إلى آخر ما هنالك. لقد أمكن باكتشافه لمفهوم النسق أو قل النظام، وبوصفه لمصطلحات التزامن والتعاقب وعلاقة العنصر بالعناصر الأخرى في نسق علاميٍّ ما بأن يعيد صياغة الفكر البشريّ في مجالاته العديدة. فأصبح العالم بعده غير العالم قبله. يستوي هذا في الفلسفة كما هو في النقد الأدبيّ ومثله في علوم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا. بقي ممن ذكرتَ علمين، أوّلهما إدوارد سعيد وهذا عبقريٌّ تمكّن مع إيهاب حسن من الإضافة إلى النظريّة الأدبيّة على نحو لا يقلّ عمّا أسهم به منتجوها في النقد الغربيّ. ولعلّ سعيد قد استفاد من قراءاته في بعض نصوص التراث العربيّ فوصل بينها وبين النظرية النقدية الحديثة فجاء بمقولاتٍ تتحدّى منطوق ما قال به النقد الغربيّ، وحسبك على هذا القول ما ذكره في حديثه عن "العالم والناقد والنصّ" وفيه يخالف ما ذهب إليه البنائيّون من انغلاق البنية النصيّة على مكوِّناتها اللغوية وعلاقات بعضها ببعض ليخلص إلى أنّ النصّ بنيةٌ وحدثٌ في آن، وهذه فكرة مستوحاة من كتب علوم القرآن حيث يكثر علماؤه من الحديث عن أسباب النزول، وهي الحدث، مثلما يكثرون من الحديث عن خصائص لغته وهناك تتجلى ابنية في حديثهم عن النصّ القرآنيّ. فطبّق ذلك المنظور على النصّ اللغويّ المعاصر فجاء بالمتميّز في إطار نظريات ما بعد الحداثة كما يقولون، وأحسب أنّه قد جاء بما الناقد الحديث بحاجةٍ إليه ليخرج من أسر النظرية البنائيّة التي غدت إجراءاتها تضيق على النصّ وتحدّ من انطلاق الناقد نحو عوالم يستكشفها فيه. أمّا دريدا صاحب نظريّة التقويض فلم ترق لي نظريته، وأراها خطرًا على الفكر الإنسانيّ لأنّها تسعى لتقوض كلّ المرجعيّات ولا تبقي إلا على مرجعيّة واحدة هي الهويّة التي يمثّلها دريدا نفسه. وإن لم يجهر بذلك علنًا لكنّ المرء يستشفّه من ثنايا سطور ما كتبه وترجم له، أو كُتِبَ عنه. وعلى أيّة حالٍ ما هؤلاء إلا نزرٌ من أدباء أبدعوا، ونقاد تميّزوا، كان لهم الأثر المحمود في تكوين الملكة الناقدة في تجربة صاحبك، وإنّ منهم العربيَّ، وإنّ منهم الغربيَّ. وفي الأخير تصحّ مقولة بارت – على ما أتذكّر – من أنّ الأسد ما هو إلا مجموع الخراف التي التهمها. وكذلك الكاتب منشئًا أو ناقدًا ما هو إلا مجموع الكتب التي اطّلع عليها واستوعب محتواها.
* صار مألوفا في الوقت الحاضر أن يلقي الكاتب من على ظهره المبادئ والمثل وأخلاقيات المهنة ، ليتكيف مع أوضاع جديدة مناقضاً كل ما آمن به ، وطرحه في السابق .
(ج ) ما تصفه بالمألوف هنا أراه غريبًا ومثيرًا لدهشتي؛ فالكاتب الذي يصنع ذلك لا يمكن لأحد أن يحترمه أو يقيم له اعتبارًا. أنا قد أفهم أن يطوّر الكاتب من قيمه أو يعدل فيها على حسب نضوج شخصيّته وتجربته وثقافته، فهذا ممكن ووارد. أمّا أن يلقي كل المبادئ والمثل ظِهريًّا فهذ سفهٌ لا يليق بصاحب قلمٍ شريف، وخير له أن يصمت من أن يهين نفسه بمثل ذلك الفعل المشين.
*هل نستطيع تجزئة هوية الكاتب، أو إعطاءه أكثر من هوية لاستخدامها في مراحل ذبذبته وتناقضاته وتحولاته، ثم لماذا يلجأ بعض الكتاب إلى الانقلاب على ذواتهم ومواقفهم؟
(ج ) ليست للكاتب الحقّ سوى هويّةٍ واحدةٍ هي التي يتمثّلها من ثقافته ومكوّناته النفسيّة وتجاربه في الفكر ووقائع الحياة، فإذا اختلّت تلك الهويّة واضطربت مكوّناتها لسببٍ مّا صار ذلك الكاتب شخصًا آخر غير الذي كانه في مرحلته الأولى، وسيتغيّر حينذاك كلّ ما كان يدلّ عليه من قبل لتظهر عليه خصائص مغايرة لما سلف منه وعنه، وسيشمل ذلك طريقة التفكير وأساليب الكتابة التي يعرض بها نتائج تفكيره الجديد. لكنّ مثل هذا الانقلاب المفترض قد يقع في دائرة القبول والرضى؛ لأنّ الكاتب بشرٌ، والبشر هم الذين يعيشون صور التحوّل والتبدّل ولا يدوم على حاله إلا الله سبحانه. ومثل هذا التحوّل يكون غالبًا نتاج التنوّع في الثقافة وتعدّد مصادرها، فكلّما أوغل الكاتب في المعرفة اتسعت آفاقه وتنوّعت تجاربه، لكنّه رغم هذا التنوّع لا يحول عن الأساسيّ من المواقف والإيجابيّ من الرؤى في كلّ صور الحياة، ويظلّ مأسورًا برضًى لقيمٍ ارتضاها وأعلنها ودافع عنها ويستعصى عليه الانزياح عنها، هو قد يطوّرها، وقد يضيف إليها لكنّه لا يحول إلى نقيضها أبدًا ما عاش حيًّا. أمّا إذا غُلِبَ على أمره، ووقع في ما لا نحبّذه له فحينئذٍ يسقط سقوطًا مكروهًا، ويكون النبذ مآله والعياذ بالله. وهذا لا يكون إلا في ما ندر، وفي ظروفٍ لا يعلم خفاياها إلا علاّم الغيوب وهو. على أنّ للقول ذيلاً به يستتمّ الكلام. وهو أنّ من التغيير ما هو نافعٌ وقال به فلاسفة كبار منهم الفيلسوف اليونانيّ هرقليطس الذي قال: إنّك لا تغتسل في النهر مرتين؛ لأنّ مياهًا جديدةً ستغمرك باستمرار، وفي هذا ما يشي بضرورة الصيرورة وتجديد الذات المفكِّرة تجديدًا نافعًا يقوم على المراجعة والتدبّر وتقليب (الحطب على النار) حتّى تزداد اشتعالاً، وهذا هو الذي يجعل الفكر في حراكٍ ديناميكيّ وينفي عنه الاستاتيكيّة والجمود. أضف إلى ذلك أنّ موقفنا من مثل تلك التحوّلات ينبغي أن يكون موضوعيًّا حتى نستطيع أن نروز مداها، وإلا جاء الحكم عاطفيًّا انفعاليًّا خاضعًا للهوى، وهذا أمرٌ غير مجدٍ قطّ. ولا تنسَ أنّ من التحوّلات ما يمسّ جوهرًا في فكر الكاتب ومواقفه ورؤاه، ومنها ما يمسّ عَرَضًا في هذا كلّه، وهذا وذاك يقتضي تدبّرًا قبل الحكم على الكاتب أو له. ويظلّ في المقام الأخير هذا الردّ على سؤالك في دائرة العموم لا في إطار التعيين، فلكلّ كاتبٍ مسّه شيءٌ ممّا وصفتَه في سؤالك توصيفٌ يغاير به ما يمكن أن نصف به سواه. وللتاريخ من بعد حكمه على هؤلاء وهؤلاء هو غير حكم المعاصرين لهذه الفئة أو تلك. والموضوع من السعة بحيث لا تحيط به إجابة على سؤال، وأخشى من الاستفاضة فتستحيل الإجابة إلى مقالٍ مستقلٍّ، وليس هذا المقام بمقامه. فحسبك هذا منّي ردًّا.
في حلقتنا الثالثة القادمة ، سنأتي بأنموذج من نقد الدكتور عبدالله حسين البار ، أستوقف اهتمامي ونال حقيقة اعجابي ، وبهذا وددت أن تنظروا كيف يفكر الأديب الناقد وقراءته للأعمال وأسلوبه الرفيع ونظرته المتفحصة المتأنية استشرافا للمستقبل وواقعية الطرح .. إنتظرونا .
…………………………………………………………….
[1] ) الشاعر حسين بن محمد البار.انتقل في العشرين من عمره إلى جيبوتي ليعلم الجالية هناك علوم الدين واللغة العربية ، ثم عاد إلى الوطن واستقر في عدن فترة قصيرة بعدها عاد إلى قريته القرين بوادي دوعن في حضرموت وتفرغ لكتابة الشعر. انخرط في مجال الصحافة ، ومارس المحاماة فترة من عمره. صدرت له ثلاثة دواوين:من أغاني الوادي (صدر 1954)، أصداء (صدر 2004)، الأغاني (صدر 2004).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.