طاولة المفاوضات لا تصنع انتصارا مالم تكن امتدادا لصوت الرصاص وفوهة المدافع ... فسبع سنوات من نضال الشعب اليمني ومقاومته قد جسدت تلك الحقيقة التاريخية واكدتها. فخلال سنوات 1905 - 1911م استطاع اليمنيون أن يسجلوا ملحمة وطنية اجبرت الإمبراطورية العثمانية على الرضوخ لمطالبهم والمفاوضات معهم تحت ازيز الرصاص وبركان حمم ثورة يمنية شاملة حتى وصف احد قادة العثمانيين بسالة وشجاعة المقاتل اليمني بقوله: ( لو كان للدولة العثمانية ألف رجل من هؤلاء الرجال لأخذنا أوروبا بأسرها) . لتثمر سبع سنوات من المقاومة بعقد صلح دعان عام 1911م . اندلاع المقاومة مع تولى الإمام يحيى لمقاليد الحكم بعد والده تمكن في عام 1905م من حصار صنعاء ومعه عشرون ألف مقاتل يمني لاجبار الحامية العثمانية على الاستسلام ومع اشتداد الحصار ووطأته عقد صلح بموجبه خرج العثمانيين إلى حراز ودخل الإمام يحيى صنعاء في 21 ابريل 1905م . ودانت له اغلب القبائل اليمنية مما اضطر حكومة استانبول إلى ارسال حملة عسكرية لاسترجاع مدينة صنعاء واعادة اعتبارها السياسي والعسكري في اليمن . ومع وصول حملة أحمد فيضي باشا لميناء الحديدة في يونيو 1905م وخلال توجهه نحو صنعاء لاقى مقاومة يمنية شرسة وما أن شارف على صنعاء انسحب الإمام يحيى إلى حاشد تفاديا لحصاره داخل صنعاء ومن اجل القيام بحرب عصابات وسحب القوات العثمانية إلى خارج صنعاء لتقطع صلتها بمركزها و بأمدادها ولكي يستطيع القضاء على الجيوش العثمانية بين الصخور الصماء والتى لا يعرف مسالكها احد غيره بداية المفاوضات كانت العمليات الحربية الكبيرة والمستمرة تكلف الدولة العثمانية كثيرا من المال والجنود فضلا عن أن قضية اليمن كانت تشغلها عن المشكلات الأخرى الكبيرة الخاصة بباقى الامبراطورية العثمانية الواسعة . لذلك لجأت إلى طريق المفاوضات بعد أن عجزت عن معالجة شؤون اليمن عن طريق الحملات العسكرية . وعلى هذا ففي منتصف عام 1906م أرسلت الدولة العثمانية وفداً لعقد الصلح مع الإمام يحيى فقدم الإمام شروط اعتبرها سببا لسلامة اليمن ورقيها واحيائها وفي أخر شروطه اوضح أن البعض يستفيدون من كثرة ارسال العساكر العثمانية إلى البلاد اليمنية إذ لا يخلو ذلك من الفائدة المادية لهم ولعلهم لا يرضون بهذه الشروط لأن باتباعها يستتب الأمن وينقطع ورود العساكر إلى هذا القطر فيخسرون بذلك ما كانوا يؤملون . وطلبا الإمام يحيى اصدار فرمانا سلطاني يتضمن قبول شروطه معتبرها هي المحور التى تدور حولها مفاوضات مستقبلية . اعتبرت الدولة العثمانية مطالب وشروط الإمام يحيى انتقاصا لسيادتها ففشلت المفاوضات ورفضت الشروط خاصة أن السلطان عبدالحميد الثاني عرف عنه محاولاته الصريحة لتركيز السلطة في يده والقضاء على مناوئيه وعلى اي شخصية تريد أن تقيم لنفسها ملك ودولة داخل الدولة العثمانية . كذلك من الأسباب في فشل المفاوضات أن الوفد الذين أنيط بهم عقد الصلح لم يخلصوا نيتهم وخدعوا حكومتهم لشيء في نفوسهم . لذلك اشتعلت المعارك بين الثوار اليمنيين والعثمانيين في العديد من المناطق في خولان والبيضاء وسنحان وذمار والمحويت وحجة وغيرها من المناطق اليمنية . علماء مكة عادت الحكومة العثمانية محاولاتها بالاتصال الشخصى بالإمام يحيى وتطرق باب المفاوضات وتأتي هذه المحاولات بغرض حل قضية اليمن نهائيا وأن السلطان لا يفهم حقيقة الأمر في اليمن ولذلك يرسل الوفود إلى هناك للمفاوضات وتقريب وجهات النظر والوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الثورات اليمنية . ولهذا أرسل السلطان في منتصف 1907م وفداً من كبار علماء مكة إلى صنعاء بغرض النصيحة وترك القتال والحث على الصلح فرد عليهم الإمام يحيى بخطاب عرض فيه وجهة نظره في قضية اليمن ويشرح مطالبه وأغراضه ومقدما بعض الاقتراحات لإنهائها . موضحا في خطابه فساد وظلم الولاة وتنوع معاصيهم وارتكابهم للمحرمات ظاهرا بلا حياء ولا احتشام كذلك ما تقوم به السلطنة العثمانية من ارسال الجيوش والعساكر لليمن بدوافع واكاذيب ينسبوها لنا بأننا روافض وخوارج وأن الولاة يخفون الحقائق في اليمن عن الوفود والرسل التى تأتي لليمن لاستطلاع الأوضاع والأحوال للوقوف على الحقيقة وختم الإمام يحيى خطابه بتمنياته أن ينجح وفد مكة في مهمته فخطابه يوضح موقفه الرسمي من الدولة العثمانية ورغبته في أن يعترف العثمانيون بوضع خاص له باليمن لكن خطابه لم يقدم أو يؤخر في حل القضية اليمنية لذلك استمرت الأوضاع على ماهي عليه فكل طرف يحتفظ بما هو مسيطر عليه من المناطق إلى جانب وقوع اشتباكات ومناوشات فيما بينهم وسبب ذلك أن العثمانيين لم يسيطروا على الموقف تماما في اليمن وكذلك بالنسبة للإمام يحيى وفي عام 1908م وللقيام بحل جزئي لقضية اليمن قامت الحكومة العثمانية بعزل واليها في اليمن أحمد فيضى باشا وعينت بدل عنه حسن باشا والذي عقد صلحا اشبه بهدنه مع الإمام يحيى كان من ابرز بنوده أن لا يعتدى أحد على الآخر وفد صنعاء كان الوضع في اليمن بنظر الدولة العثمانية يحتاج إلى تهدئة عامة فاعترفت الحكومة بالوضع الخاص للإمام يحيى في اليمن رغم أن ذلك يعنى ضمنيا وجود دولة داخل دولة وانتقاصا للسيادة العثمانية ولكن كان لابد من هذا العمل حتى تتمكن الدولة من الوصول نهائيا إلى إقرار الأمن في اليمن . وايضا من تلك الخطوات لتهدئة أرسل السلطان العثماني عبدالحميد الثاني بنفس العام 1908م يطلب وفداٌ من كبار رجال صنعاء من سادة وعلماء وأعيان ليتكلموا فيما يصلح اليمن ووصل الوفد إلى استانبول ومكثوا بها مدة طويلة حتى استطاعوا مقابلة السلطان ولم تدم المقابلة إلا عشر دقائق ويرجع ذلك اساسا إلى فشل اعضاء الوفد في عرض القضية التى أتوا من أجلها إذ كان الوفد يختلف اساسا فيما بينه وبين نفسه حول أكثر من نقطة ولم ينقسم الوفد حول كيفية حل أزمة اليمن فقط بل اختلف اعضاء هذا الوفد حول الغرض من حضورهم إلى استانبول ايضا . فكان أكثرهم يرى أن المثول أمام السلطان فرصة لا تعوض لنيل مطالب خاصة ومصالح شخصية كالحصول على مناصب ومراكز معينة في الدولة ولهذا فشل الوفد وعاد مباشرة إلى صنعاء . ورغم فشل الوفد كلف السلطان وفد آخر من أهل اليمن من رجال الإمام خاصة لا من أهل صنعاء ولكن هذا الوفد فشل ايضا في شرح قضية اليمن لدى السلطان . مشروع التقسيم ومع قيام انقلاب 1908م وتولى الاتحاديين الحكم في استانبول وإعلانهم الدستور ورغبتهم في تطبيق المركزية بالسلطة وإلى تتريك عناصر دولتهم مما أدى إلى قيام الثورات العربية ضد الدولة العثمانية ومنها ثورة اليمن للمطالبة بحق تقرير المصير . وبعد أن افصح الاتحاديون عن حقيقة سياستهم عبر أحد أشراف اليمن في مقال له في جريدة الأهرام عن وضع اليمن فقال : ( اليمن الأن ليست دار توطن بل هي دار حرب وقتال بين هيأتين تديران أمورها وأهاليها ضياع بين الهيأتين لا يعرفون أية حكومة يرتكنون لها ..... ) . لذا كانت ثورات اليمن المستمرة المتعددة تجبر حكومة استانبول في ايجاد حلول فقد قال أحد الاتراك إن اليمن أربعة ملايين مسلم ومع ذلك فقد خسرت الدولة عليهم مئات الألوف من الرجال والملايين من النقود دون أن تستفيد منهم شيئا ) . وهو يشير إلى الثورات العديدة والخسائر الفادحة . ولهذا وضعت لجنة المبعوثان لائحة تخول الإمام يحيى إدارة شؤون بعض الأقضية الداخلية في اليمن لمدة عشر سنوات تحت رقابة حاكم يعينه الباب العالي .وفي اغسطس 1909م أقرت مشروعان من ست مواد تقضي المادة الأولي بتقسيم ولاية اليمن إلى ولايتين ساحلية وجبلية حيث تفوض الولاية الجبلية للإمام يحيى . ميزانية اضافية لم تقف محاولات الحكومة العثمانية عند هذه المشروعات لتهدئة الحالة في اليمن بل كانت مستعدة لمعالجة الأمر بالحزم والقوة وارسال المزيد من القوات والمعدات الحربية لليمن فقد أدرجت في ميزانيتها لعام 1910م مبلغا كبيرا لشراء 24 زورقا حربيا عسكريا لخفر سواحل اليمن وكما وعدت بإرسال 48 زورقا حربيا آخر إلى تلك الجهات لمنع تهريب السلاح وكانت الحكومة تخاف تهريب السلاح أشد الخوف وتشك دائما في أن انجلترا وايطاليا تساعدان على تهريب الأسلحة إلى اليمن وإلى قبائلها الاشداء سواء للإمام او للإدريسي . بل ولجأت إلى وسيلة أخرى لمواصلة الحرب في اليمن فكانت ترفع رتب الضباط إغراء لهم على السفر إلى اليمن وتعمد إلى ترقيتهم قبل ترحيلهم للحرب في اليمن . صلح دعان بعد تولى محمد علي باشا أحد رجالات الاتحاديين ولاية اليمن في يونيو 1910م والذي كان مخلصا لمبادئ الاتحاديين ولتنفيذ سياستهم وهي القضاء على كل مناوأة وكل تمرد وثورة في اليمن سواء ضد الإمام يحيى في صنعاء أو محمد الأدريسي في عسير واتبع سياسة العنف والحرب فقوبل بتجدد المقاومة والثورات والحروب مما قاد اليمنيون إلى حصار مدينة صنعاء مركز العثمانيين وحاميتهم في اليمن والذي استمر الحصار من بداية يناير الى اخر ابريل عام 1911م . مما أدى إلى عزل الوالي العثماني وتعيين أحمد عزت باشا بدله عنه . وقررت الحكومة العثمانية قبول مطالب الإمام يحيى جميعها وأن ما يرسل من الجيش إلى اليمن إنما هو للمحافظة على القسم الساحلي وإظهار هيبة الحكومة في اليمن تجاه الأجانب . واستطاع عزت باشا فك حصار صنعاء بعد معارك شديدة مع اليمنيين فأدرك ان مواجهه اليمنيين انتحار لجنوده وخسران لسمعه الإمبراطورية العثمانية سياسيا وعسكريا لهذا عقد صلح مع الإمام يحيى عام 1911م والذي عرف بصلح دعان نسبة إلى الموضع الذي عقد فيه بمدينة عمران وبذلك اعترفت الدولة العثمانية للإمام يحيى بوضع خاص كحاكم محلي داخل مناطق سيطرته الشمالية وأدارته لشؤون الحكم فيها مع اعترافه بالسيادة العثمانية .