منذ تبوئ الإنجيلي المتشدد المدعو «أبي أحمد» منصب رئاسة وزراء جمهورية أثيوبيا في 27 مارس 2018 ومن ثم حصده -عام 2019- جائزة نوبل للسلام مكافأةً على ما كان له من إسهام في حل النزاع الأثيوبي الإريتري الحدودي الذي دام 12 عامًا وهو يسعى -صباح مساء- لتحقيق منجزٍ وطنيٍّ غيرِ مسبوق في تأريخ أثيوبيا يضمن له البقاء في منصب رئاسة الوزراء إلى أجل غير مسمى، فلم يجد سوى التسريع بوتيرة إنشاء وملء السد بقرار أثيوبي منفرد غير آخذٍ في الحسبان توجسات مصر والسودان ممَّا قد يطرأ على حصتيهما من مياه النيل -جراء إنشاء سد النهضة بشكل متسارع والإصرار الإثيوبي على ملئه بقدر كبير من التتابع- من نقصان يطال بتأثيره الكارثي الأرض والإنسان. ونتيجة تعنت المدعو أبي أحمد ورفضه التشاور مع شريكيه في حوض النيل [مصر و السودان] بشأن تزمين مراحل ملء السد الذي تتجاوز مساحته ضعفي مساحة مملكة البحرين مع مراعاة ما يربط الأقطار الثلاثة من روابط الصداقة والأخوة وتلويحاته المستفزة والمتكررة باستخدام القوة، فقد عُلقت المفاوضات بين الثلاثة البلدان المتعلقة بهذا الشأن منذ أكثر من عام استغله أبي أحمد انطلاقًا من موقفهِ المتشدد في ملء السد قبل الموعد المحدد، فإذا بوسائل إعلامه تعلن يوم الإثنين ال12 من أغسطس الماضي -بحسب الكثير من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء- (عن الانتهاء من الملء الثالث وتشغيل توربين ثانٍ لتوليد الكهرباء بقدرة 375 ميغاوات، ليرتفع بذلك مقدار توليد الطاقة الكهربائية بالتقنية المائية -خلال سنوات معدودات- إلى 750 ميغاوات)، وإذا بأبي أحمد -وقد حشد لفيفًا من المسؤولين الإثيوبيين حوله- يلقي من موقع السد الذي رفض أيَّ نوع من التفاوض بشأن إنشائه وملئه كلمة انفعالية واستفزازية وغير مسؤولة لم تعبر عن شخصه باعتباره رجل دولة بقدر ما عكست ما ينتابه من صلفٍ وغرورٍ وزهو وما يتملكه من أوهام البطولة. بيد أنَّ فرحته المتجاوزة للحدود المنطقية والمعقولة لم تستمر سوى 12 يومًا بالتمام، حتى تفاجأ -بعد هدنةٍ مع جبهة تحرير تيغراي لم تستمر سوى 5 أشهر- بتفجر الوضع عسكريًّا مع الجبهة التي يبدو أنها قد استغلت شهور الهدنة المعدودة في التجهيز والإعداد لخوض معركة ضروس تجرِّع من خلالها القوات الحكومية -وفق تكتيك مدروس- أقسى الدروس وأمر الكؤوس، ولعل كل المؤشرات التي تلوح في الأفق تؤكد أن هدف المقاتلين التيغرايين ممكن التحقق. ففي ال28 من أغسطس الماضي [اليوم الخامس للقتال] -على سبيل المثال- استهلت شبكة «الجزيرة» أخبار القتال على هذا المنوال: (أكدت جبهة تحرير تيغراي سيطرتها على مدن ومساحات واسعة بإقليم أمهرة شمالي إثيوبيا، وأنها كبدت الجيش الإثيوبي خسائر كبيرة. وأعلنت قيادة جبهة تيغراي سيطرتها على أكثر من 8 مدن في إقليم «أمهرة»، ولا سيما مدينة «غوبو»، وقالت إنها تصدت لهجمات شنتها القوات الحكومية وما وصفته بالمليشيات الخاصة لإقليم «أمهرة». وأوضحت قيادة الجبهة أن القتال دار على مساحة 140 كيلومترًا مربعًا، وشاركت فيه عشرات الفرق من الجيش الإثيوبي. وأضافت قوات تيغراي أنها أوقعت خسائر كبيرة في صفوف الجيش الإثيوبي بين قتيل وجريح وأسير). وفي ضوء الفارق الهائل الحاصل في ميزان القوى بين المقاتلين التيغرايين وجيش أثيوبيا الذي أكدت الكثير من الأبناء حصوله على مساندة ميدانية من جيش إريتريا الذي يناصب التيغرايين العداء، فإن ما حققه مقاتلو التيغراي البسلاء -إلى هذه الأثناء- يعد -بكل المقاييس- نصرًا عسكريًّا استثنائيّا. وبالرغم من تقليل حكومة أبي أحمد من شأن استيلاء المقاتلين التيغرايين -في فترة زمنية قياسية- على مساحات شاسعة في إقليمي «أمهرة» و«العفر» الأثيوبيين المتجاورين، فقد تأكد اعترافها بخطورة آثاره بصورة غير مباشرة، وذلك ما يتجلى بأوضح ما يمكن من صورة من احتواء خبر شبكة الجزيرة -من ناحية أخرى- على (من جانبها، حذرت الحكومة الإثيوبية جبهة تحرير تيغراي من استمرار التوغل في إقليمي «أمهرة» و«العفر»، وطالبتها بالتوقف عن القتال والعودة إلى الحوار). وممَّا يدلّ على استثنائية استعداد قوات جبهة تحرير تيغراي الكبير لخوض هذه المواجهة التي تعتبرها معركة تقرير المصير أن كفتها في الميدان -بعد أكثر من عشرة أيام من اشتعال القتال واستعانة الجيش الأثيوبي بسلاح الطيران- ما تزال -إلى حدٍّ الآن- آخذةً في الرجحان. ومهما أدى فارق ميزان القوى إلى تغيرٍ في النتائج، فإن أهمية هذه المعركة تكمن في دلالتها القوية على فشل انتهاج أبي أحمد -منذ تبوئه موقع المسؤولية- سياسة تجاهلية تجاهُ أزمات بلاده الداخلية وتلمسه المخارج في افتعال أزماتٍ متواليةٍ مع الخارج، كما تكمن أهميتها -من جانب آخر- بإخطاره -وهو في ذروة الانتشاء والتنرجس والتآلق- بما قد يحلُّ بالبلاد -جراء محاولاته البقاء في المنصب بشتى الطرُق- من تشظٍّ وفرقةٍ وتمزُّق.