يُعدّ غيلان الدمشقي من أبرز المفكرين في التاريخ الإسلامي الذين نادوا بالحرية والعدالة، وجاهروا بضرورة محاسبة الحكام ورفض استبدادهم، فدفع حياته ثمنًا لذلك في واحدة من أكثر مراحل التاريخ الإسلامي مأساوية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز عهد إليه بمهمة رد المظالم التي نهبها الأمويون من بيت مال المسلمين، فكان يجاهر في الأسواق مناديًا: «تعالوا إلى متاع الظلمة»، في إشارة إلى الأموال التي جمعها أمراء بني أمية ظلمًا. كان غيلان من أبرز تلامذة الحسن البصري، وعُرف بفكره المتحرر الذي يدافع عن حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله. وقد أثار هذا الفكر قلق الحكام الأمويين الذين تبنّوا نظرية "الجبر"، لتبرير استبدادهم بزعم أن أفعالهم قدر من الله لا يسألون عنه. وعندما تولى عمر بن عبدالعزيز الخلافة، وجد في غيلان الرجل الأمين القادر على مساعدته في إصلاح الدولة، فاستعان به في مهمة رد الأموال المنهوبة إلى بيت المال، فواجه بشجاعة أمراء بني أمية، ودعا إلى بيع أموالهم التي راكموها من مال الأمة.
يذكر ابن المرتضى في *المنية والأمل* أن غيلان كان شديدًا في الحق، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان يوبّخ الولاة والأمراء قائلًا: «من يعذرني ممن يزعم أن هؤلاء كانوا أئمة هدى، وهذا يأكل والناس يموتون من الجوع». وقد أثارت مواقفه هذه غضب هشام بن عبدالملك، الذي قال يومًا: «والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه». وبعد وفاة عمر بن عبدالعزيز، أصبح غيلان هدفًا للانتقام، فاعتقله هشام وأمر بمحاكمته أمام الإمام الأوزاعي الذي أصدر فتوى بقتله، فصُلب على باب كيسان في دمشق سنة 125 ه بعد أن قُطعت يداه ورجلاه.
تروي المصادر التاريخية أن الخليفة هشام بن عبد الملك نفّذ في غيلان الدمشقي عقوبة قاسية تُجسّد قسوة الاستبداد حين يواجه فكر الحرية. فبعد أن أمر بقطع يديه ورجليه عقابًا له على مواقفه، أُقيم غيلان مصلوبًا عند باب كيسان في دمشق، وظلّ يصدح بكلمات الحق والاحتساب حتى وهو ينزف. ولما خشي الحاكم أن تتحوّل كلماته الأخيرة إلى رمز يُلهب ضمير الناس، أمر بقطع لسانه وهو على خشبة الصليب، ليموت صامتًا جسدًا، ناطقًا فكرًا وروحًا في ذاكرة التاريخ.
تصف المصادر موقف غيلان في لحظاته الأخيرة بأنه كان ثابتًا كالجبال، يهاجم الظلم والطغيان من فوق خشبة الصليب، حتى أمر الخليفة بقطع لسانه. قال عنه الحسن بن محمد بن الحنفية: «إنه حجة الله على أهل الشام، ولكن الفتى مقتول»، في إشارة إلى شجاعته الفكرية وصدق دعوته.
يرى المؤرخون مثل اليعقوبي وابن سعد أن فكر غيلان سبق عصره، فقد دعا إلى أن تكون الإمامة لمن يقوم بالكتاب والسنة، لا حكرًا على قريش أو على بيتٍ بعينه، معتبرًا أن الأمة مصدر السلطة، ولها الحق في اختيار الحاكم ومحاسبته، بل وخلعه إذا جار أو ظلم. وقد نقل الشهرستاني في *الملل والنحل* أن غيلان كان أول من طرح فكرة "العدل الإلهي"، مؤكدًا أن الله لا يعذب الناس على ما لا يختارونه، وهو ما وضعه في مواجهة مباشرة مع الفقه الرسمي الذي تبنّاه الخلفاء لتبرير استبدادهم.
ووفقًا لما أورده الجابري في *العقل السياسي العربي*، فقد شكّلت أفكار غيلان إحدى البذور الأولى للفكر الديمقراطي في الحضارة الإسلامية، إذ جمع بين الإيمان بالحرية الفردية والعدالة الاجتماعية والمساءلة السياسية. كما أن رسائله التي كتبها إلى عمر بن عبدالعزيز، والتي أوردها ابن المرتضى، تُعد من أروع النصوص التي تدافع عن مبادئ الحكم العادل القائم على التعاقد بين الحاكم والمحكوم.
أما نهاية غيلان، فكانت مأساة تتجاوز شخصه إلى فكرة قُتلت معه، فقد تحالف السلطان مع الفقيه لإسكات صوت العقل، كما يقول المؤرخ محمد الكوخي، الذي وصف مشهده الأخير بأنه "أحد أكثر المشاهد سخرية في التاريخ الإسلامي"، حيث اجتمع الحاكم الظالم والفقيه المبرر لقتل صاحب فكر يدعو إلى الحرية.
تاريخيًا، يعتبر غيلان الدمشقي أول من واجه بجرأة احتكار السلطة، وأول من أسس لمبدأ أن الإنسان مسؤول عن أفعاله وليس مجبرًا عليها. ومع أن خصومه من فقهاء السلطان وصفوه ب "الضال المسكين" كما قال الذهبي، إلا أن التاريخ أنصفه لاحقًا كأول شهيد للفكر الديمقراطي في الإسلام.
لقد عاش غيلان الدمشقي زمنًا كانت فيه الأمة غارقة في الاستبداد، فواجهه بالكلمة والحق والعقل، فكان بحقّ أول ديمقراطي عربي في التاريخ الإسلامي. دفع حياته من أجل قيم العدالة والحرية، ليبقى رمزًا خالدًا في ضمير الإنسانية الباحثة عن الحق.
المراجع: البغدادي *الفرق بين الفرق*، الذهبي *ميزان الاعتدال*، الشهرستاني *الملل والنحل*، ابن المرتضى *المنية والأمل*، اليعقوبي *تاريخ اليعقوبي*، ابن سعد *الطبقات الكبرى*، الجابري *العقل السياسي العربي*، أبو زهرة *تاريخ المذاهب الإسلامية*.