السبت قبل الماضي 28 نوفمبر 2015م كنت ضيفاً في برنامج يوميات العدوان بقناة (اليمن) الرسمية التي تبث برامجها من اليمن، وكان من بواعث غبطتي وسعادتي الغامرة أنني كنت في ضيافة العملاق المتألق الذي يخجلني كثيراً بروعة تهذيبه وجمال أخلاقه المخضرم الأستاذ/أحمد الذهباني، وكان محور المقابلة حلول الذكرى ال48 لعيد الاستقلال المجيد، وشهدت الألم يعتصر قلب مقدم البرنامج ويرتسم على محياه وصوته يتهدج بمرارة، وقد اختار لافتتاح المقابلة التذكير بمرور 248 يوماً على بدء العدوان، فراح يكرر الرقم بحزن شديد، 248 يوماً من الأيام السوداء التي عاشتها (اليمن) من أقصاها لأقصاها، 248 يوماً من تناثر الدماء والأشلاء، 248 يوماً من الفظاعات والمآسي والمجازر التي يُفترض أن يندى لها جبين العالم، 248 يوماً من الصمت العالمي المُخزي المُخجل تجاه طغيان عدوان تحالف شيطاني جهنمي دولي غاشم بأعذار وحُجج واهية للغاية يدرك كذبها وزيفها وحقيقة أمرها سلفاً، 248 يوماً من استباحة واستمراء وتواطؤ مُهين للمجتمع الدولي تجاه إراقة من يدعون أنهم حَماة لحقوق الإنسان وإهدارهم لدماء عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء من الأطفال الخُدج في حضَّاناتهم إلى الأمهات والشيوخ الطاعنين في السن الذين لا حول لهم ولا قوة ولا ناقة لهم ولا جمل بقنابل محرمة دولياً تنسف أجساد الأحياء وتحولهم لمجرد ذكريات تُروى، وتلوث ما يستنشقه الأحياء منهم من هواء بالغازات والسموم، وتعمل على تشويه الأجِنَّة في بطون أمهاتهم خلال السنوات القادمة. وكانت الصورة المقابلة لتلك الصورة المأساوية المروعة بالغة القتامة والسوداوية، 248 يوماً من شموخ (اليمن) وصموده وتصديه لجحافل التتار الجدد الململمين من كل أصقاع الأرض بأقصى ما يمتلكون من عُدَّة وعتاد وهمجية ووحشية ووضاعة ونذالة وسفالة، 248 يوماً من العزة والفخار والإباء والكبرياء لقنت المعتدين المتغطرسين أبلغ الدروس العسكرية وأذاقتهم مرارات الهزيمة والانكسار، 248 يوماً سطر فيها اليمانيون تأريخاً مجيداً معاصراً يعانق ماضياً تليداً مجيداً، 248 يوماً وضع فيها اليمانيون عسكريون ومدنيون تحت نعال أقدامهم كرامة المعتدين، ومرغوا أنوفهم في الوحل، وحولوهم لأضحوكة في نظر شعوبهم ، 248 يوماً أبهر فيها اليمانيون كل شعوب الكون ولووا فيها أعناق البشر، 248 يوماً تعملق فيها (اليمن) واليمانيين وتحول لأسطورة ليس لها نظير في الأولين والآخرين،، 248 يوماً صار فيها (اليمن) شاء المعتدون أم أبوا نجماً ساطعاً في السماء ترتفع لرؤيته الهامات ويشار إليه بالبنان، 248 يوماً أسودَّت فيها بفضل الله وجوه (العلوج) الأوباش المتربعين على عرش ممالك الرمال ومن ساندهم وساعدهم وأمدهم بالرجال والعتاد وكل دعم متاح لهم جلياً كان أو مستتراً. ومازلت أرى رؤيا العين علامات الاستفهام المقرونة بعلامات الدهشة والتعجب ترتسم في وجوه وعقول الصهاينة والأمريكان، وهم يتذوقون مرارة العلقم في أفواههم، وهم عاجزون تماما عن تفسير وفهم واستيعاب ما هو ماثل أمام أعينهم وسائر حواسهم من تحدي وثبات لشعب كانوا على يقين مطلق وبنسبة 100% أنه بات منهاراً بالفعل وليس فقط على حافة الانهيار، وفق ما وردهم من تقارير استخباراتية مؤكدة، جراء انعدام كل مقومات الحياة لأي مخلوق بشري ليس فقط بفعل ما أوجده العدوان من حصار (بليد) سد عليهم حتى منافذ الهواء النقي الذي يستنشقوه، بل وجراء انتفاء كل مقومات التحدي والثبات والنصر ولو حتى لمدة سبعة أيام، فما بالهم وقد تجاوز الأمر تسعة أشهر بالتمام والكمال بأيامها ولياليها وشموسها وأقمارها. حتى السواد الأعظم من اليمانيين أنفسهم كانوا يدركون في قرارة أنفسهم أن ما كان لوطنهم من جيش قد أصبح بفعل الهيكلة في خبر كان، وأن قرارات الهيكلة قد أفضت إلى تحويل ذلك الجيش لمجرد هيكل عظمي خالي من أبسط وأدنى أبجديات المواجهة والالتحام مع أي عدو مستقبلي محتمل، وما كان أكثرهم تفاؤلا ليقتنع ولو في أروع أحلامه بإمكانية صمود ذلك الجيش لليلة واحدة في وجه أكذوبة ما كان يسمى بجيش مملكة الرمال المجاورة وحدها منفردة، فما بالنا به وهو مستمر لأكثر من تسعة أشهر بتلقين أولئك الأوغاد هم وتحالفهم الدولي الجبان الذي يزيد عن عشرة دول مسنودة بدعم وتواطؤ دول عظمى ترتعد لمجرد ذكرها فرائص أفراد جيوش بأكملها لم تطلها لعنة الهيكلة في المنطقة، ما لم يكن يخطر على بال كل أولئك المعتوهين منفردين كانوا أو مجتمعين، و? يكتفي أبطال ذلك الجيش المهيكل بذلك بل وتتجاوز بعض وحداته الحدود لضرب أرباب الحماقة والعفن في عقر دارهم، فيباغتهم ويقض مضاجعهم ويشل حركتهم ويطيش عقولهم ويصيبهم بمزيج من الصدمة والذهول، فيزيد من ضراوتهم ووحشيتهم وتتعاظم خستهم ونذالتهم وجبنهم في استهداف المدنيين الآمنين المطمئنين في مخادعهم وهم مستسلمون لنوم عميق لم يعد يعكر صفوه أزيز الطائرات وتحويمها، و? أصوات صواريخهم (الذكية) التي ظنوها عند ارتطامها بالأرض ستبث الرعب في قلوبهم وأفئدتهم. وها قد عادت الحياة لسابق عهدها قبل بدء العدوان، ها هي إرادة الحياة تنتصر رويداً رويداً على إرادة الموت التي أرادوا لنا أن نحياها، لعلنا نصل وفق مشيئتهم لمرحلة لا ندرك فيها هل نحن مازلنا من أهل الدنيا أم أن أرواحنا قد غادرت أبداننا وفاضت إلى بارئها، فصرنا مجرد أموات تسير على قدميها. ها هم أبناؤنا الطلاب يعاودون المضي نحو مدارسهم وجامعاتهم آمنين مطمئنين غير عابئين ولا ملتفتين لما قد تتعرض له أجسادهم الطاهرة من إيذاء قد يبلغ أقصى مداه بتغييبهم عن الحياة ونقلهم للرفيق الأعلى، وها هم ينتظمون في طوابير الصباح ممارسين تمارينهم الرياضية التنشيطية مرددين نشيدهم الوطني، جالسون في مقاعدهم في فصولهم.. في قاعاتهم.. في مدرجاتهم.. يتلقون من معلميهم دروسهم ومحاضراتهم. وها هي السيارات تستغرق في رسم سيمفونية الحياة مجدداً، وقد عادت للسير بعد أن تم تزويدها بالوقود دون مشقة أو عناء لتتكدس في شوارع وأزقة العاصمة الرئيسة والفرعية عند الظهيرة، وهو وقت عودة الموظفين والعمال والطلاب إلى مساكنهم، تماما كما كان حالهم الذي تعودوا عليه من قبل، وكأن العدوان قد ولى وصار تاريخاً سحيقاً يروى في بطون الكتب الموضوعة على أرفف المكتبات، نعم إنها إرادة الحياة تنتصر بأبلغ صورها على إرادة الفناء والموت، هذه هي (اليمن) وهكذا هم اليمانيون ليسوا فقط أصل العرب بل أصل الجنس البشري، ولا أستبعد مطلقاً أن يكون سيدنا آدم عليه السلام قد هبط من الجنة فاستوطن بني مطر أو الأعروق أو زبيد أو صرفيت أو حديبو.