نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار لا العنف

لقد تجلى بوضوح منهج الإسلام، في جعل الأبواب مشرعة أمام الموافق والمخالف، في الولوج منها، من خلال الحوار بين جميع الأطياف المتفقة والمختلفة، للوصول إلى رؤية موحدة في القضايا المتنازع عليها، والمختلف فيها، وعند عدم الاتفاق يبقى كل على حجته ورأيه، مع بقاء النفوس سليمة من أي نوازع البغضاء والكراهية والشحناء، ليتعاون الناس على إقامة الحياة من خلال القواسم المشتركة، ويجدر بنا هنا أن نعرض بعض صور الحوار التي وردت في القرآن الكريم، لتكون لنا نبراساً نستضيء بها، ونهتدي من خلالها إلى المنهج القويم الذي أن نسلكه مع كل من يخالفنا في رأي أو مذهب... أو غير ذلك.
ففي حوار الله تعالى مع الشيطان يقول الله تعالى: (ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) [الأعراف:11-18].
ويقول تعالى:


(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) [الحجر:32-40].
ومن خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان، تبرز حقيقة الثواب والعقاب، والخير والشر، والإيمان والكفر، وما كان لصورة هذه الحقيقة أن تكتمل من دون هذا الحوار، وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون الاعتراف بوجود الآخر.
وفي حوار الله مع الأنبياء تبرز حقائق كثيرة، منها حقيقة الإعجاز الإلهي في مثل قوله سبحانه((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم) [البقرة:260].
وفي حوار الله مع عباده تبرز حقيقة العدل الإلهي، كما ورد في قوله عز وجل: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى )[طه:125-127].
وفي حوار الأنبياء مع الناس تبرز حقيقة التربية الإلهية والعناية الربانية بالعباد في مثل قوله جل شأنه: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة:1].
كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية في مثل قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258]، فلولا الجحود والعناد عند نمروذ، لكانت هذه الحجة كافية لهدايته إلى الحق؛ لأنها حجة دامغة.
ومن الحقائق التي تبرز في حوار الناس بعضهم مع بعض: حقيقة الجشع الإنساني والتعالي والفخر بمتاع الدنيا، وذلك في مثل قوله جل وعلا: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا )[الكهف:34].
ومن خلال هذه الآيات الكريمة يتبيَّن أن الحوار يتطلب وجود تباين واختلاف في الفكر، وفي الاجتهاد، وفي الرؤى، وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوع الذي يعتبر في حد ذاته آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق، ومظهراً من مظاهر عظمته وتجلياته.
إن وحدة الجنس أو اللون أو اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم من دونها بل هي آية من آيات الله عز وجل، التي أشار إليها في قوله: " وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ " [الروم:22].
لذلك لابد -من أجل إقامة علاقات مبنية على التعاون والاحترام- من الحوار على قاعدة هذا الاختلاف الذي خلقه الله تعالى وأراده أن يكون، والذي يتكشف للعلم أنها موجودة حتى في الجينات الوراثية التي تشكل بعناصرها شخصية كل منا ويتميز بها.
إن للحوار قواعده وآدابه، ولعل من أبرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة سبأ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يحاور غير المؤمنين شارحاً ومبيناً ومبلغاً، ولكنهم كانوا يصرون على أن الحق إلى جانبهم. فحسم الحوار معهم على قاعدة النص الذي لا يجزم –في الظاهر- بضلال أحد الفريقين، وهداية الآخر، وذلك في قوله تعالى: ژڃ ڃ ڃ ڃ چ چ چ چ ڇ ڇ ژ[سبأ:24].
فقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في مستوى من يحاور تاركاً الحكم لله، وهو أسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، مع ما بين الفريقين من تباين، يعرف منه أصحاب الهدى وأصحاب الضلال، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال الله عز وجل في الآية التالية مباشرة: (وإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[سبأ:25]، فكان من آداب الحوار بل من المبالغة في هذه الآداب أن وصف ما هو عليه من الحق بأنه إجرام (في نظرهم)، ووصف اختيارهم للباطل بأنه مجرد عمل، ثم ترك الحكم لله جل شأنه وذلك في قوله: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ )[سبأ:26].
إن احترام حرية الاختيار هنا ليس احتراماً للخطأ ولا إقراراً له، فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة إسقاطها ليسا الهدف الذي لا يكون الحوار مجدياً إلا إذا برزا في الحوار.
إن من أهداف الحوار تعريف الآخر على حقيقة لا يعرفها، ومحاولة إقناعه -بالتي هي أحسن- بموقف ينكره أو يتنكر له، وهو أمر يشكِّل في حد ذاته أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري، والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس، ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد التعطش إلى المعرفة، وتتحول مساحات الفكر إلى بحيرات آسنة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة:251]، ويدخل في ذلك دفع الباطل بالحق عن طريق الحوار.
إن الاختلاف بين الناس، وما يشكل الاختلاف من تدافع، يشكلان سبباً من أسباب موجبات عدم فساد الأرض.
وهناك فوارق كثيرة بين علاقة الوصول إلى الهدف عن طريق الحوار والإقناع بالحجة، وعلاقة الإلزام بقبول الرأي عن طريق القوة والقهر، فالعلاقة الأولى هي نتيجة حوار وثمرة تفاهم، وهي بالتالي فعل إرادي تحقق الاحترام والثقة، وحُسن التعاون المتبادل، وأما العلاقة الثانية فهي حال تَنَكُّر لحق الآخر وتجاهل لفكره وقناعاته، ورفض سماع ما عنده، وتجاوز للحوار كوسيلة لفهمه وللتفاهم معه. وهي بالتالي حال مفروضة. وكل ما هو مفروض مرفوض من حيث المبدأ، حتى لو كان الحق مع صاحبها، ولذلك فإنها لا تحقق سوى البغضاء والكراهية وعدم الثقة، وبالتالي عدم قبول الحق.
لقد أرسى مجتمع المدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة لإقامة نسق تعاوني بين فئات الناس من مؤمنين وأهل كتاب في أمة واحدة. وذلك عن طريق الوثيقة النبوية التي أقرت أصحاب الآراء على آرائهم، وتكفّلت بحمايتهم كما هم.
فقد قام محتمع المدينة على قاعدة نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف، وليس مع تجاهله، ولا مع محاولة إلغائه ليتحقق الانسجام في الحياة المشتركة على أرض واحدة.
كما حاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصارى نجران في مسجده في المدينة المنورة وأحسن وفادتهم، وعندما حان وقت صلاتهم، لم يجد النبي أي غضاضة في دعوتهم.
فقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية عن ابن إسحاق أنهم قاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوهم»، فصلَّوا إلى المشرق.
إن العقيدة في الإسلام تستقر بالفكر اختياراً ولا تُلصقُ في القلب عن طريق الإلزام القهري، والقرآن الكريم يقول: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة:256] أي أن هذا الدين من حيث الوضوح وجلاء معالمه، وبيان حججه الدامغة، لا يحتاج إلى إكراه، وقد يكون معنى الآية: أن هذا الدين هو دين الفطرة الذي تألفه وتميل إليه، فليس فيه ما يحمل على كراهيته بحيث تنفر منه النفوس حتى يحتاج إلى إكراه، إذاً فلا تكرهوا الناس على الدخول فيه.
وعلى القاعدة التي أرسى بنيانها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دولة المدينة الأولى والتي سبقت الإشارة إليها، فإن الإسلام لا يضيق بتنوع الانتماء العقدي، ولا يؤمن بالانتقاء العرقي، إذ «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، فإذا كان التنوع من طبيعة تكوين المجتمع، فإن الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدي بالاختيار الحر وبالتعاون إلى الوفاق والتفاهم والوحدة، ذلك أن البديل عن الحوار هو القطيعة والانكفاء على الذات، وتطوير ثقافة الحذر والشك والعداء للآخر، مما قد يورث الصراع بين الأطراف المختلفة فتفسد معه الحياة.
إن للحوار أهدافاً مختلفة، فهو إما أن يكون وسيلة لتنفيس أزمة ولمنع انفجارها، وإما أن يكون سعياً لاستباق وقوع الأزمة، ولمنع تكوّن أسبابها، وإما أن يكون محاولة لحل أزمة قائمة ولاحتواء مضاعفاتها.
وفي هذه الحالات الثلاث تكون مهمة الحوار هي العمل على:
1- إبراز الْجَوَامِع المشتركة في العقيدة والأخلاق والثقافة.
2- تعميق المصالح المشتركة في التنمية والاقتصاد والمصالح.
3- توسيع مجالات التداخل في الأنشطة الاجتماعية الأهلية (كالأندية الرياضية، والجمعيات الخيرية، والمؤسسات التعليمية، والاستشفائية، وغيرها مما يساعد على بناء الحياة، ونموّها، واستقرارها، ويفتح المجال للتعاون على أوسع نطاق).
4- التأكيد على قيم الاعتدال وتوسيع قاعدتها التربوية السويّة.
5- إثراء الثقافة الحوارية التي تقوم على عدم رفض الآخر، والانفتاح على وجهة نظره وإخضاعها للنقاش، وعدم التمترس وراء اجتهادات فكرية من خلال التعامل معها –أي مع هذه الاجتهادات- وكأنها قواطع ثابتة غير قابلة لإعادة النظر.

التفاهم:
إن أي حوار يستلزم -من حيث المبدأ- تحديداً مسبقاً لأمرين أساسيين: الأمر الأول هو التفاهم على ماذا نتحاور.
والأمر الآخر هو التفاهم لماذا نتحاور. أي أنه لابد من تحديد منطلقات الحوار وقواعده وأهدافه.
ينطلق الحوار من قواعد منطقية وعلمية تعتمد على الحجة والبرهان، وعن طريق الجدال بالتي هي أحسن، والموعظة الحسنة، فالله عز وجل خاطب موسى بقوله: (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ )[طه:42-44]. ويأمر باتباع الحكمة في الدعوة: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ژ[فصلت:33-34].
وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن اتّباع أساليب السفهاء ومجاراتهم في السبّ وتسفيه معتقدات الآخر، حتى لا يحمله ذلك إلى الإساءة إلى الذات الإلهية، -من باب سد الذرائع- يقول جل شأنه: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ)[الأنعام:108].
ولابد لكي يبدأ الحوار أن يمتلك أطرافه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا تذوب أمام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل إزاء ذلك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار، فيتجمد ويتحول إلى صدى للأفكار التي يتلقاها من الآخر فيتقبل بالتالي كل ما يلقيه الآخر، مما يقتنع به وما لا يقتنع به، تحت عامل الهزيمة النفسية.
لذلك أمر الله رسوله أن يحقق ذلك ويوفّره لمحاوريه وذلك في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ )[الكهف:110]، (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَژ[الأعراف:188].
فهو يقول لهم: ليس عندي ما يخيفكم منّي، ويحملكم على التهيب من محاورتي، فأنا بشر مثلكم، وإنما تميزت عنكم بالوحي الذي أكرمني الله به.
فإذا امتلك أطراف الحوار الحرية الكاملة والثقة بالنفس، فأول ما يناقش فيه هو المنهج الفكري الذي يتم سَير الحوار على أساسه، –قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيله- ليتعرف الجميع على الحقيقة التي قد تكون غائبة عن أذهانهم، وهي أن القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية فلكلٍّ مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتدّ إليها، ولذلك عاب الله سبحانه على الذين انسلخوا من شخصيتهم، وجادلوا على أساس ما وجدوا عليه آباءهم، لا على أساس قناعاتهم، فقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ )[البقرة:170].
كما لابد -لكي ينجح الحوار- من أن يتم في الأجواء الهادئة ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، فإنه قد يخضع لبعض العوامل الخارجيّة، ويستسلم لها لا شعورياً مما يفقده استقلاله الفكري، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )[سبأ:46] فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه، وهو من العوامل الخارجة عن نفس الإنسان ومن الضغوط التي تُملى عليه، لذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء.
والمنهج القرآني في الحوار يرشد إلى إنهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى أثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرها في الفكر، إنه أسلوب لا يسيء إلى الخصم بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده إلى موقع المسؤولية ليتحرك الجميع في إطارها وينطلقوا منها ومعها في أكثر من مجال.
إن في ثقافة الحوار في الإسلام آداباً وقيماً ومنهجاً أخلاقياً يحترم الإنسان وحريته في الاختيار، كما يحترم حقه في الاختلاف وفي المجادلة، وفي النتيجة وهي أن: (من اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها).
وتستدعي الموضوعية والوضوح –بدايةً- الاعتراف بأن المسيرة البشرية اليوم تعاني من تدهور خطير في أمنها واستقرارها، وبالمقابل لا أحسب أحداً يجادل أو يماري في أن تدهور القيم، واختلال قيم العدل، وازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية، يشكّل بكل تأكيد مصدراً أساساً لما تعانيه المجتمعات البشرية من رعب وهلاك ودمار.
وأمر آخر -لابد من التنويه عنه- وهو حالة الاتهام المتبادل بين أتباع الثقافات والحضارات بشأن تحديد من المسؤول عن حالة الاختلال المزلزل الذي تعتري العلاقات بين المجتمعات فيفسدها.
ومن أخطر حالات الاتهام المتبادلة بين الثقافات تلك الجارية اليوم –للأسف- بين المسلمين والغرب، فالغرب بات ينظر للمسلمين على أنهم مصدر الرعب والتوتر في العالم..! وأن ليس للغرب مستقبل مع المسلمين، فالمسلمون –على حد فهم بعض الغربيين- يؤمنون أن الآخر ليس له معهم إلا خيار واحد من ثلاثة خيارات: اعتناق الإسلام، أو دفع الجزية، أو الموت، والمسلمون في المقابل يتهمون الغرب بالظلم والعدوان، وأن المسلمين ليس لهم مع الغرب مستقبل آمن، فالغرب يعاملهم بموروث الحروب الصليبية التي قامت على:
1- سياسات القهر والإذلال والاستعباد للشعوب المسلمة.
2- ممارسات التنكر لما عند المسلمين من الجانب الديني والثقافي والحضاري للإسلام والمسلمين.
3- منهجية الهيمنة والتفرد بقرارات مصالح المجتمعات الدولية.
ولكن الواقع الذي يقتضيه الإنصاف والموضوعية، هو عدم قبول مثل هذا التعميم بشأن هذه الاتهامات المتبادلة بين المسلمين والغرب، فالغرب ليسوا سواء في فهم الإسلام، وليسوا سواء كذلك في موقفهم من المسلمين.
وبالمقابل فإن الكثير من الغربيين يؤمنون بأن المسلمين ليسوا سواء في فهمهم للغرب، وليسوا سواء كذلك في موقفهم من الغربيين، وأمام هذا الاختلال في العلاقة بين الثقافات والحضارات، وأمام الحالة المؤلمة للمسيرة البشرية، والمتمثلة بشكل رئيس فيما يلي:
1- تدهور الأمن والاستقرار العالمي.
2- اختلال حالة التعايش الآمن بين المجتمعات.
3- تدهور سلامة البيئة واعتلال صحتها.
فإنه لابد من إبراز مجموعة من التوجهات والمنطلقات التي يدعو إليها الإسلام وتؤيدها الديانات السماوية الأخرى والثقافات، وهي على النحو التالي:
- العدل والسلم فهما أساس العلاقة بين الأفراد والمجتمعات.
- القبول بالتنوع البشري، والتعددية الدينية والثقافية، لأنها أساس التعايش بين المجتمعات.
- الدين يبقى المكون الأساس لوجدان الإنسان، والموجه الأقوى لسلوكه ونهجه الأخلاقي في الحياة.
وما دام الأمر كذلك وهو الإجماع والاتفاق على ما تقدم من منطلقات نبيلة-، فما هو إذاً مصدر الخلل والاضطراب الذي تعاني منه المسيرة البشرية المعاصرة؟ أهو خلل في الأديان ذاتها؟ أم أن الأديان ليست المؤثر الأقوى في صياغة وجدان الإنسان وسلوكياته؟ أم هناك عوامل أخرى؟ وللجواب على هذه الأسئلة أقول:
أولاً- الدين يبقى المكون الأساس لوجدان الإنسان، والمؤثر الأقوى في توجيه سلوكياته إذا أحسن الإنسان الاستمساك به والتعامل معه، والاهتداء بهديه لأنَّ الدِّين لا يتحمل مسئولية العوج في سلوك الأفراد والمجتمعات.
ثانياً- هناك فلسفات ومذاهب اجتماعية تتناقض مع رسالة الأديان بل قد تصل إلى حدّ المنافسة لها في صياغة وجدان الإنسان وفي رسم مسارات سلوكه، وهذه قد تشكّل منعطفاً خطراً في توجيه الإنسان، وصياغة شخصيته بقدر بعدها عن الرسالات الإلهية.
ثالثاً- الأديان نفسها –بشكل عام- ليست سواء في مناهجها وقيمها وغاياتها.
رابعاً- الناس ليسوا سواء في فهمهم للدين، وليسوا سواء في التزام قيمه ومبادئه.
وتأسيساً على ما تقدم من تنوع، ومن اختلاف بين مصادر التكوين الوجداني للإنسان وصياغة سلوكياته، وعلى أساس من اضطراب فهم الناس لحقيقة الدين ومقاصده، فإنه يبدو واضحاً:
1- أن مصدر الخلل في مسيرة التعايش البشري هو الاضطراب في فهم أتباع الأديان للأديان، لا في حقيقة الدين وأصوله ذاتها.
2- أن الاضطراب والاختلاف بين أتباع الأديان سببه خلل في منهجية التعامل مع النص الديني وليس بسبب الخلل في النص الديني ذاته عند سلامته من التحريف.
3- أن الأديان السماوية جميعها جاءت لتقرر حقائق ثابتة لا اختلاف بشأنها، وهي:
- أن الناس ربهم واحد.
- أن الناس خلقوا من نفس واحدة وأن أباهم واحد.
- أن غاية وجود الناس وكافة المخلوقات عبادة الله.
- أن الإنسان مستخلف في الأرض بصفته إنساناً بصرف النظر عن هوية انتمائه.
- أن المخلوقات مسخرة للإنسان للنهوض بمهمة الاستخلاف.
- أن من غايات الاستخلاف: عمارة الأرض، وإقامة الحياة، وإقامة العدل، وصون كرامة الإنسان، والتنمية المستدامة، وسلامة البيئة.
هذه الحقائق والمبادئ والغايات السالفة الذكر... تشكل أساس منهج الإسلام ومقاصد رسالته الربانية العالمية، وهي مما يكاد يجمع عليه كذلك أهل الأديان السماوية الأخرى، ويؤيدهم في كثير منها أتباع الأديان الروحية، وأتباع الفلسفات والمذاهب الاجتماعية في الجملة.
وبعد فإنَّ أسباب الخلل والاضطراب -الذي تعاني منه المسيرة البشرية المعاصرة، والخلل الذي طرأ في التعامل- جاء بسبب أن بعض أتباع الأديان وسّع دائرة التعامل على أساس "العقيدة والاعتقاد" في منهجية علاقته مع الآخر حتى غطت، أو ألغت دائرة الشريعة، وأصبحت دائرة العقيدة –دائرة التمايز- هي النافذة الوحيدة التي يطل منها هؤلاء بعضهم على بعض، ويجعلونها المعيار الأوحد في التعامل على حساب مساحة الجوانب الأخرى المشتركة في دائرة الشريعة، وأحسب أن مثل هذا الخلل يشكل اليوم مصدراً أساساً لاتساع ثقافة الصراع والصدام بين الحضارات.
وهناك مسألة أخرى تساهم أيضاً في إضعاف الأثر الإيجابي والبناء، في تصحيح وترشيد الأداء البشري في ميادين الحياة، هي الفهم المختزل –عند بعضهم- لمفهوم العبادة في الدين، حيث يحصرونها في الشعائر التعبدية ويتجاهلون أو يلغون البعد المادي للعبادة، فالشعائر التعبدية هي موضع خلاف وتناقض بين الأديان، ولا سبيل للتعايش والتعاون على أساسها، ومن هنا أفرز هذا الخلل حالة انحباس عند المنشغلين بنوع معين من العبادة، من أتباع الأديان –إلا من رحم ربي- حتى صار كل في معبده منكفئاً على ذاته. أما الصنف الآخر فمنهم مَن لا شأن له بأحوال الناس، ولا يلتفت إلى معاناتهم، ومنهم مَن يعاديه ويخاصمه ويحاربه، وهذا بتقديري هو المصدر الثاني للخلل الذي تعاني منه حالة التعايش بين المجتمعات البشرية.
والحالة الصحيحة لمفهوم العبادة تقوم على الاعتقاد بالتكامل والتلازم بين بعديها الروحي والمادي. فمفهوم العبادة في الإسلام تتكون من عبادتين اثنتين هما: العبادة الروحية، والعبادة العمرانية. العبادة الروحية في الإسلام من شأنها وغايتها أن تحقق تزكية النفس، وبناء وجدان الإنسان وسلوكه على قيم الاستقامة والفضيلة.. وذلك من أجل أن يؤهَّل سلوكياً ووجدانياً للقيام بالنوع الآخر من العبادة: وهو أداء عبادة الله تعالى في ميادين الحياة. وهي العبادة العمرانية في الإسلام والتي مِن شأنها وغايتها أيضاً تأهيل الإنسان بالكفاءات والمهارات، التي تحفّزه للأخذ بأسباب الابتكار والإنتاج والإبداع.. ليكون جديراً بالنهوض بمهمة الاستخلاف في الأرض.
وعلى هذا فالعبادة العمرانية في الإسلام هي ميدان التعاون والتنافس بين أتباع الأديان، فلئن ضاقت بهم وفرقتهم محاريب العبادة الروحية بسبب خصوصيتها الدينية، فإن من شأن محاريب العبادة العمرانية أن تجمعهم وتوحد جهودهم، من أجل إقامة الحياة وعمارة الكون سعياً وراء كل ما يؤدي إلى إسعاد الإنسان في هذه الحياة.
والإسلام يقرر ويؤكد أن أي خلل في التكامل والتواصل بين العبادتين الروحية والعمرانية يشكل تراجعاً عن كمال وتمام الانصياع لأمر الله وتحقيق مرضاته.
وللأسف فإن بعض المسلمين وغيرهم من أتباع الأديان السماوية الأخرى، يمارسون نوعاً من هذا الخلل في التعامل مع هاتين العبادتين، فمنهم من ينصرف كلياً للعبادة الروحية على حساب العبادة العمرانية، ومنهم من ينهمك في العبادة العمرانية على حساب العبادة الروحية، مما يولد ويغذي حالة الخلل التي تعاني منها مسيرة المجتمعات البشرية.
وكذلك الخلل في تنشئة الأجيال البشرية على واجب التكامل والتوازن بين عبادة الله في محاريب العبادة الروحية، وعبادته سبحانه في محاريب العبادة العمرانية.
ومن المسائل التي تشكل مصدراً من مصادر إضعاف الأثر الإيجابي للقيم الدينية الربانية -في تقويم وترشيد الأداء البشري في ميادين الحياة-، هي غياب أو ضعف الإحساس لدى الأجيال البشرية بالتكامل والتلازم بين مسؤوليات الأمن الإقليمي والأمن العالمي، بل إن هناك ضعفاً وربما غياباً لإحساس الأجيال البشرية تجاه المسؤوليات الوطنية والإقليمية والعالمية، والسبب في ذلك يعود إلى تغييب أو تجاهل القيم والمبادئ الدينية التي تؤكد بناء روح المسؤولية الجماعية لدى الأجيال.
ويمكن الاستفادة من بعض نصوص القرآن التي تشير إلى أن الإسلام يهتم بشؤون الحياة العامة للبشرية، وأنه يدعو إلى الاهتمام ب
1- الأمن الإقليمي والأمن العالمي وأنهما أمران متكاملان ومتلازمان.
2- وأن المسؤوليات البشرية تجاههما مسؤوليات متكاملة ومتلازمة أيضاً.
ومن الآيات التي تشير إلى ذلك قوله تعالى: { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } [الحجرات:13].
ومن شأن التعارف المذكور في الآية التعاون على كل ما من شأنه أن تصلح به الحياة.
وقوله سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزيز)[الحديد:25].
وعلى هذا الأساس فإن الإسلام يسعى لتربية الأجيال على أن المواطنة لها دائرتان: مواطنة إقليمية، ومواطنة عالمية.
والإسلام شرّع للمواطنة الإقليمية ميثاقاً، وحدّد لها منطلقات وقواعد وضوابط منها:
1- اعتبار المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية أمة واحدة.
2- الحرية الدينية مكفولة لكل مواطن.
3- المواطنون متضامنون ومتكافلون في الحرب والسلم.
4- المواطنون جميعاً مسؤولون عن رد العدوان وحفظ سيادة الأوطان.
5- التعاون والتشاور والتكامل في المسؤوليات واجب على الجميع.
6- والتكافل والتراحم واجب ديني بين جميع المواطنين.
وهذه المعاني جلية في الوثيقة التي اتفق عليها المسلمون واليهود في المدينة المنورة، بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن ما سبق من قواعد وغيرها تُكوّن بتكاملها المطلق الأساس لعقد المواطنة الإقليمية في نظام الإسلام وشرعته.
والإسلام من جهة أخرى يتّجه بالثقافة البشرية لتتحرر من حالة الانحباس القومي إلى الانطلاق في سعة الفضاء الإنساني الرَّحب، ولتنعتق من أطر همومها الإقليمية إلى آفاق اهتماماتها العالمية، لتوازن بين خصائص المصالح الوطنية وعالمية المنافع الدولية، ولتعتني بأسباب التكامل بين الأمن الإقليمي والأمن العالمي للمجتمعات.
ولتحقيق هذه الثقافة الإنسانية النبيلة، اعتنى الإسلام بمقومات وقيم وآليات المواطنة العالمية، اعتناءَه بمقومات وقيم المواطنة الإقليمية، وأقام بينهما تكاملاً موضوعياً متوازناً، حيث شرّع سبعة أعمدة خاطب بها الناس جميعاً بلا استثناء لتكون أساساً لميثاق مواطنة عالمية بينهم، وهي:
1- «يا أيها الناس إن أباكم واحد».. تأكيداً على وحدة الأسرة البشرية.
2- «يا أيها الناس إن ربكم واحد».. تأكيداً على وحدة مصدرية الإيمان.
3- «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام».. تأكيداً على قدسية حياة الإنسان وكرامته وممتلكاته.
4- «وإنَّ كل رِباً في الجاهلية موضوع».. تأكيداً على الأمن الاقتصادي.
5- (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ) [التوبة:36].. تأكيداً على احترام الوقت، وإشاعة ثقافة الأمن والسلام، وتعزيز سلامة البيئة، والتعايش الآمن بين الناس.
6- «واستوصوا بالنساء خيراً، ألا إن لكم على نسائكم حقّاً، ولنسائكم عليكم حقّاً»، تأكيداً على أهمية واجب المرأة وكونها شريكة مع الرجل في تحمل مسؤوليات الحياة.
7- كون الرب تبارك وتعالى حرّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرَّماً، وطلب منهم أن لا يظلم بعضهم بعضاً. تأكيداً على أن العدل أساس كل فضيلة، وأنه الحارس الأقوى والأضمن لأمن المجتمعات والأوطان.
ولتفعيل ميثاق المواطنة العالمية شرّع الإسلام سبعة منطلقات وآليات لتكون أساساً لحركة أداء بشري مشترك في ميادين الحياة، وهي:
1- التعارف: { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } [الحجرات:13].
2- التدافع: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) [البقرة:251]، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )[الحج:40].
3- التكامل: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فيه، فأخذ الناس يطوفون به ويقولون ما أجمله وما أحسنه لولا موضع لبنة فيه، فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء». فكما تكامل بنيان الأنبياء بخاتمهم، فكذلك ينبغي أن تتكامل حياة البشرية، عندما يُسنِد بعضهم بعضاً.
4- التعاون على كل ما يؤدي إلى إصلاح الحياة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )[المائدة:2].
5- التنافس في أمور الخير: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )[المائدة:48].
6- التراحم: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
7- التعايش من خلال تبادل المنافع: (أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32].
وهذا كله يدلّ على أن رسالة الإسلام هي رسالة الحياة للناس جميعاً دون تمييز: ژڻ ۀ ۀ ہ ہ ہ ہژ[الأعراف:158]. وأن الآخرة هي ميدان التفاضل بينهم عند الله، وأنه سبحانه سيفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيدژ[الحج:17]، وسيبطل سبحانه الباطل ويحق الحق، وسينال كل من الخلائق جزاءه حسب ما قدم، إنْ خيراً فخير وإن شراً فشر.
ونحن المسلمين وعلى أساس ما تقدم نؤمن بأن الناس جميعاً خلق الله تعالى وعباده، وأن أشرفهم عنده هو أتقاهم، مثلما نؤمن بأن الله قد جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، على أساس من احترام تنوع أعراقهم وثقافاتهم، وخصوصياتهم القومية، وثقافاتهم، وعدم انتهاك سيادة بلدانهم وممتلكاتهم واستقرارهم وأمنهم، وأن يجعلوا من هذا التنوع في الشرائع والثقافات والإمكانات والمهارات بينهم منطلقاً للتعاون والتنافس، وحافزاً للتكامل بين حقوق الإنسان وواجباته على مستوى مسؤوليات المواطنة الإقليمية ومسؤوليات المواطنة العالمية، وذلك كله في إطار تكامل وثيق وأداء متوازن بين نظام عادل.. يتحقق به العدل، كما تتحقق به كرامة الإنسان، وسلامة البيئة والتنمية والازدهار والرفاهية، والتعايش الآمن بين الناس جميعاً أفراداً ومجتمعات.
إن القيم الإنسانية هي التي تجعل أفضلية التواصل والتسامح الحضاري تستمر رغم كل ما يشوب جو العلاقات من توتر وتنازع يكاد يعصف بالثوابت التي تضمن عدم تكرار الحروب الأهلية والعالمية المدمّرة، وتكمن تلك الأفضلية في تحكيم صوت الضمير، واللجوء إلى العقل، وإلى المرونة بدل العنف والصراع المتوحش.
والإسلام ديانة عالمية سمحة ترفض كل إكراه وجبرية يُفرضان على عقل وروح الإنسان، وعالميتُه تجعل الحضارة والثقافة الإسلامية منفتحتين على حضارات الأمم ومتجاوبتين مع ثقافات الشعوب، ومؤثرتين ومتأثرتين، وهذا يوضح إنكار الإسلام للمركزية الحضارية التي تريد أن يكون العالم حضارة واحدة، وتسلك سبل الصراع –صراع الحضارات- لقسر العالم على نمط حضاري واحد، بعكس ما يريده الإسلام عالماً ذا حضارات متعددة ومتميزة، لكن ما تفرضه العقلية الحديثة من إيجاد مسوِّغات التدخل في شؤون الدول والشعوب باسم السلام والشرعية، وتحت شعارات مخادعة أبرزُها نشر الحرية والديمقراطية، فهذا ما يرفضه المنطق ولا يقبله عقل، لأن التغيير بالإكراه وتحت صوت المدفع لا يكون ذا جدوى ما لم يتجذر الوعي ثم تكون الإرادة في الإصلاح قوية، وبناء على معطيات ذاتية وموضوعية، وتصور مسبق للكيفية التي يجب أن يتم بها.
والتدرج في تبني مبادئ السماحة والدعوة بالحُسنى، يجعل ممارسة الرسالة أمراً ذا ثمار، له أصل ثابت وطيب، رغم ما يمكن أن يوازيه من صعوبات تتجاوزها بالنظرة الثاقبة والجهد المكثف والصبر العميق لتكون النتائج محمودة.
إنَّ من المهم جداً التدريب على الاستمرار في عدم رد الأذى بمثله وضبط النفس وعدم التراجع عن السير في طريق الإصلاح، مع الحذر من الشعور بالإحباط واليأس، والمحافظة على الثقة بالنفس: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا)[إبراهيم:12]، والثبات على مبدأ العمل السلمي، وكلما تم إبراز إيجابيات ومكاسب المبدأ الإسلامي السمح تم معه كسب مزيد من القناعات المساندة له حتى من ألدّ الخصوم المعارضين له، مما يجعلهم يتمثلونه تدريجياً فيجدون فيه البديل المقنع والواقعي.
إن الموقف السلمي ينقل إيجابيَّاته إلى الآخر في الحياة وبعد الممات، في الحياة عند التوقف عن الهجوم، واللجوء إلى الحوار بدل الصدام وبعد الموت، كما في قصة ولدي آدم عندما طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فالقرآن يصف القاتل بصفات: الظالم، والخاسر، والنادم، وأنه من أصحاب النار، ولم يقل عنه إنه بطل متفوق ربح الجولة بل أعتبره خاسراً، كما لم يصف المقتول بأي صفة تشينه، أو تنتقص من موقفه السلمي.
وفي ظل زمان حاصرت فيه ثقافةُ العجرفة والعنف ثقافةَ السلم -في ظل هذا الوضع- فالمجتمعات العربية -على وجه الخصوص- التي تتركز فيها هذه العقلية، بحاجة إلى إعادة بلورة قيم حضارية لها جذور متأصلة في بيئتها الدينية وفي ثقافتها الاجتماعية من أجل استيعاب شامل لنهضتها القادمة، حتى يبنى لنا مجتمع مستقر يحتضن الإنسان العربي والمسلم في اطمئنان وسلام بعيداً عن قيم الغدر السياسي والاجتماعي والتربوي المدمّرات ذلك هو المجتمع المنشود الذي يجب على الجميع الانخراط في العمل على بنائه، بدل تكريس بناء مجتمعات الأشباح المخربة، هناك مجتمعات قد هجرها أبناؤها باحثين عن الأمن والأمان، باللجوء إلى الأسلوب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والذي يبني ولا يهدم عند الرغبة في التغيير، وتحقيقاً للمجتمع المثالي الحق فإن الفكر والخطاب السلمي لابد أن تعطى له فرصة التداول والانتشار بدون عقبات، وذلك لما له من إمكانات واعدة بالخير في اكتساب خطاب السلم المستجد في المعنى والاتجاه اللازم لإحياء وبعث هذه الثروة الكافية من المفاهيم والأدبيات الإسلامية المعنية ببناء مستقبل سلمي، هذا الاتجاه ممكن فقط إذا تضافرت جهود العاملين والباحثين في سلك الدعوة الإسلامية على تحقيقها، وساعدت الطبقات الاجتماعية وغيرها في تكريس مضامين تؤسس للأرضية الصالحة لمستقبل بلا حروب ولا نكبات، مستقبل يعمره السلام منذ مراحله الأولى، بدايةً بالولادة، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)[مريم:33]، فيتدفق السلام مع نبضات كل فرد معلناً حقبة عوالم جديدة أفراده سلميون يدخلون في السلم كافة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ )[البقرة:208]، يؤسسون مجتمعات ركائزها عمل صالح، وإعراض عن الجهل والجاهلين، بفضل السلام الذي تَحَلَّوا: (وإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). [القصص:55]، عقيدتهم الحنيفية السمحة، دستورهم هو الذي يعرفون به الله الذي سمى نفسه: السلام: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ) [الحشر:23]، يبتغون به رضوانه ودار السلام: لَهُمْ دَار السَّلَام عِنْد رَبّهمْ وَهُوَ وَلِيّهمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام:127]، التي أعدها الله لعباده المخلصين ودعاهم إليها: { وَاَللَّه يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم } [يونس:25]، ليقيموا فيها ويعيشوا حياة سرمدية أبدية يهنئون بتحية الإسلام: { وَتَحِيَّتهمْ فِيهَا سَلَام } [إبراهيم:23]، فيحيي أصحاب السلام قيمة الاختلاف الفطري، والعفو الذي يدعو إليه الإسلام، وتزيدهم في الدنيا عبادتهم جمالا، وتزيد من احترامهم لدى الآخر رغم ما بينهما من اختلاف: إن القرآن استخدم كلمات جميلة حذر فيها من الحكم بالكفر على مَن ألقى السلام على المؤمنين، فقال: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )[النساء:94]، وأهمية هذه المعاني تجعل المرء يستبشر بمجتمعات المستقبل التي ستقوم على السلام، ومن بينها المجتمع الإسلامي الذي له رسالة رائدة استطاع بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوصول إلى ذروة التأسيس لمجتمع السلام، في ظل مجتمعات قبلية ضاقت صدورهم بالصراع بسبب عقليتهم التي لا تتجاوز حدود المصلحة الآنية المحددة بحدود القبيلة والنزعة العصبية، والتي لا تقبل إلاّ العنف وقيم الذكورة المعززة بالقوة وجحود حق الآخر، وقد حقق النبي عليه السلام في ظرف وجيز معجزة تاريخية، بأن خرج بتلك الثقافة الراكدة المتوحشة، وبتلك المجتمعات الممزقة إلى أن تتبوأ قمة التحضر، ولتكون أمته خير الأمم: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران:110]، وهي الأمة التي عرفتها البشرية مجددة مسيرة الوعي الإنساني نحو عصر الكمال البشري.
ثم يجب التأكيد عند الحديث عن العمل السلمي على أن التحيز للنصوص التي تدعو إلى هذا التصور دون الأخذ بعين الاعتبار بالنصوص الأخرى التي تكتمل بها مسيرة الدعوة النبوية غير صحيح ولا جائز، بل الحاجة ماسة إلى القراءة الشاملة المتكاملة للنصوص التي تدعو إلى السلم والعفو، والنصوص التي تطالب المؤمن المسلم بالجهاد، ولكن بضوابطه ومتى يكون، وما هي أسبابه ودوافعه، وما هي آدابه وأحكامه؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.