في أحد المستشفيات الحكومية بحضرموت التقى مجموعة من العاملين الصحيين (بالأجر اليومي) بإدارة المستشفى للمطالبة بتحسين أجورهم وظروف عملهم. فالعامل الصحي هناك لا يتجاوز راتبه واحد ونصف دولار يوميا (الذي يعادل قسائم الوقود التي يحصل عليها أدنى مدير إدارة) بالإضافة إلى أنه لا يحصل على إجازاته السنوية وأبسط حقوقه القانونية والإنسانية.
انتهى اللقاء بكلمة قالها مدير المستشفى: " من لا يعجبه العمل فعليه أن يغادر".
هكذا باختصار حسم مدير المرفق الصحي هذا اللقاء متجاوزا القانون ومواده التي كفل بها حقوق العامل في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية، فبدلا من أن يتعامل بايجابية مع تلك المطالب المشروعة ذهب بعيدا نحو استحضار سلطته الإدارية كاشفا بوضوح عن وجه التلاعب والفوضى التي تعم تلك الإدارات الحكومية المتهالكة.
وبالعودة إلى مصطلح "الأجر اليومي" فقد أنتجته حالة الفساد المستمرة في المؤسسات الصحية الرسمية منذ ما يقارب العشرين عاما, ولا يعد قانونيا فهو يحرم العامل الصحي من حقوقه القانونية والإنسانية وتأمينه المعيشي الذي كفلها له الدستور.
تكمن المسألة أساسا في غياب الوعي النقابي لدى العامل وقد سعت السلطات الرسمية خلال العشرين عاما الفائتة باتجاه تعطيل دور النقابات وتزييف الوعي العام وبالخصوص الوعي النقابي ومن ثم غرس عناصر غير فاعلة أو تابعة لها داخل النقابة لتتولى مهمة تمييع عمل النقابة حتى أصبح أداءها شكلي، فارغ الفاعلية والتنظيم.
أنتجت النظم الرأسمالية خلال مراحل تطورها طبقة عاملة شعبية، (بروليتاريا كما سماها ماركس) وفي البلدان التي يحكمها نظام قمعي مافيوي ظلت تلك الشريحة مخترقة على الدوام وأصبحت إمكانية تشكلهم في كيانات تجمعهم تتم من خلال إرادة السلطة أو أنه يسمح بتشكلها على أن تظل بصورة كرتونية غير فاعلة.
تاريخيا نشأت أول نقابة عمالية في عدن في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم وكانت تسمى (نقابة النجارين) وتعتبر أيضا أول نقابة في الجزيرة العربية، وقد تطور معها العمل النقابي في عدن وتزايدت النقابات حتى أصدرت بريطانيا آنذاك في بداية الأربعينات قانونا يسمح بتشكيل النقابات وتنظيمها.
تطور العمل النقابي نتيجة تطور الحياة المدنية في عدن وكان للنقابيين دور محوري في إشعال فتيل الثورة ضد الاحتلال البريطاني وتدشين مرحلة الكفاح المسلح.
في مرحلة ما بعد الاستقلال اتسم العمل النقابي بأخذه زمام المبادرة وانطبع بطابع سلطوي تحت تأثير الايديولوجيا الاشتراكية حتى حرب عام 1994 التي كانت مفصلية في مسيرة العمل النقابي حيث تم تدمير كل ماله علاقة بالنقابات عبر غرس عناصر تعمل ضمن إطار السلطة لتدير النقابة وفق خارطة المصالح السلطوية والمافيا البيروقراطية وربما يكون السبب الجوهري في تمييع دور النقابات هو نكوص المدنية على حساب القبلية والطوائف فاختلت العلاقة الوظيفية للنقابة وتضاءل الوعي العام بأهمية تفعيل دورها وأصبحت تعمل شكليا بالتنسيق مع السلطات الفاسدة ففقدت دورها المنوط بها في حماية العامل والنضال نحو تحقيق مصالحه.
فقدت النقابات مهمتها وأصاب الفساد جهازها الإداري والمالي ووصلت إلى حالة من الفوضى والعدمية الوظيفية.
كل تلك الفوضى والتدمير أنتجت تلك الحالة التي جعلت مدير المرفق الصحي يقول للعمال: "من لا يعجبه العمل فعليه أن يغادر".