إن انتقال السلطة بشكل عمودي من شأنه أن يمنح نظام الحكم السعودي حيوية واستقراراً ، وهو ما درجت عليه معظم الأنظمة الملكية في العالم، حيث إن نظام انتقال الملك بشكل أفقي يشكل خطورة على استقرار الدولة خلال بضعة أجيال، وغالباً ما يؤدي الأمر إلى الصراعات السياسية داخل الأسرة الواحدة. حينها، كان نظام الملك في السعودية طوال أكثر من 100 عام ينتقل بين أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وهو ما كان يمنح انطباعاً بأن السلسلة الملكية سوف تنقطع بانقطاع أبناء الملك المؤسس، حتى جاء محمد بن سلمان وقام بتغيير دراماتيكي بطريقة سلمية توافقية داخل العائلة، ونال مباركة كبار الأمراء في خطوة تمنح المملكة استقراراً في نظامها الجوهري للحكم. تميل المناخات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى أنظمة الحكم الشابة، والتي تتجه بدورها إلى الانفتاح على الأفكار والمفاهيم الراهنة، مع تطبيق برامج وأدوات الحكم الحديثة، مثل مؤشرات الأداء التي قدمها محمد بن سلمان في الرؤية التي صاغها لعام 2030 . وباستلامه لكرسي ولاية العهد، فإن سؤالاً كلاسيكياً كان يدور حول سؤال واحد: ماذا سيحدث لنظام الحكم لو توفي كل أبناء الملك المؤسس؟ هذا التساؤل سوف يغيب كلياً، لقد تغيرت هيكلية السلطة، ومن المرجح أن لدى محمد بن سلمان الكثير ليفعله من أجل تعزيز بدء المرحلة التاريخية الثالثة من الدولة السعودية، من خلال سلسلة من الوجوه الشابة التي تحكم صناعة القرار. يطغى الشباب على المجتمع السعودي حيث إن (65) في المئة من الشرائح العمرية دون سن التاسعة والعشرين، مما يعني أن تزامن نظام الحكم عمرياً مع المجتمع في مرحلته الفتية، سيؤدي إلى مشروعات وبرامج وخطط ونتائج تعزز من رفاهية الفئة السكانية الأكبر في المجتمع السعودي. خصوصاً أن أول تشكيل وزاري في عهد الملك سلمان عام 2015 كان مختزلاً في مؤشر واحد تجاه تقديم الكفاءات الشابة. ويدرك ولي العهد الشاب أن الكثافة السكانية التي تميل نسبتها إلى الشباب ستشكل تحدياً كبيراً، عليه مواجهته خلال ثلاثين سنة من الآن، حيث سيتحول أكثر من (65) في المئة من السكان إلى خانة التقاعد والضمان الصحي والاجتماعي، الأمر الذي سيجعل فاتورة الرعاية عبئاً اقتصادياً على الدولة. يعكس انتقال ولاية العهد إلى الأمير محمد بن سلمان بشكل توافقي وفي أجواء هادئة وسلسة، استقرار نظام الحكم السعودي وانسجامه مع ما تقتضيه المصلحة الاستراتيجية العليا بحسب المتغيرات السياسية والاقتصادية في المنطقة. لقد أظهرت العائلة نضجاً في طريقة تعاملها مع التحولات الدراماتيكية في انتقال ولاية العهد من الملك إلى الابن، الأمر الذي جعل رهانات إيران خاسرة، حيث راهنت على حدوث انقلاب داخل العائلة لو قام الملك بتنصيب ابنه ولياً لعهده. هذا الانتقال الأخضر يمثل خصوصية سعودية في التوافق والشرعية بين هيئة البيعة وكبار الفقهاء ومباركة الشعب؛ وجاء معززاً برصيد الأمير محمد بن سلمان خلال العامين الماضيين، إذ ظهرت سريعاً ملامح استراتيجيته من خلال منح صلاحيات أكبر للأمراء الشباب في صناعة القرار، وهو ما ظهر سريعاً عبر مجموعة التشكيلات الوزارية وإمارات المناطق التي كان فيها مستشاراً أولاً في اتخاذ قراراتها خلال الفترة السابقة. ويكشف الحراك الذي قام بتدشينه الأمير محمد بن سلمان محلياً خلال العامين الماضيين عن النمط الإداري الذي يتبعه من خلال ضبط مؤشرات أداء تقيس مدى تحقيق النتائج، مع حزم في المساءلة وتغييرات سريعة في التشكيلة الوزارية ضمن رسالة واضحة، أن النتائج والمواطن هما الضامن لبقاء أي مسؤول في كرسيه. قبل ذلك، لم يكن الوزراء السعوديون يدركون أن صورة أو مقطع فيديو من مواطن قد يؤدي إلى إقالته، حتى جاء الأمير الشاب وأظهر حزماً جعل الوزراء يعملون في مكاتبهم حتى منتصف الليل. الجميع كان يريد إثارة الإعجاب، وكانت الطاقة في مجلس الوزراء ظاهرة للعيان من خلال الأفكار والمشروعات التي يتم طرحها. خليجياً، فإن التحولات مع قطر تبرهن على الواقعية السياسية واستراتيجية الحزم التي يتبعها الأمير محمد بن سلمان في إدارة قضايا أساسية ومنها قضية اليمن. وقد أسهم تفاقم المعوقات السياسية التي وضعتها الدوحة في طريق العلاقات السعودية_ القطرية، طوال السنوات الماضية، في رفض الأمير محمد بن سلمان الواضح للمناطق الرمادية. فلطالما كانت السعودية تنحو مساراً سلمياً في علاقاتها مع جوارها العربي، وتحديداً الخليجي، وكانت دائماً اللاعب الأول في تخفيف التوترات، ولكن تراكم ذلك زمنياً دفع القطريين إلى تشكيل خاصرة شرقية معادية للمملكة وسياساتها السلمية في احتواء الإرهاب، وهو ما جعل بن سلمان يقلب الطاولة متخذاً قراراً لم يكن في وقت سابق متاحاً بالنسبة إلى السياسة السعودية السلمية في التعامل مع دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي. وهو ما فاجأ القطريين حقاً وأربك حساباتهم. وعلى المستوى الاقتصادي أعاد الأمير محمد بن سلمان توجيه العقيدة الاقتصادية الوطنية في سبيل فهم أعمق لآليات الاقتصاد الحديث، فقام بتخفيف استنزاف الدخل القومي الذي كان سائداً خلال عقيدة الدولة الأبوية في الإنفاق. وخلال السنوات المقبلة، سوف تتحول المؤسسات الحكومية إلى منصات ربحية من خلال الرسوم وإعادة تدويرها في مشروعات خدمية. ذلك جعله يدرك أن عليه أولاً أن يقوم بتأهيل نفسي لمجتمع اعتاد أن ينال كل شئ بالمجان، حيث لم يكن معتاداً على فكرة ضريبة القيمة المضافة مثلاً على البضائع الكمالية أو تلك الضارة بالصحة كالسجائر. ضمن الخطط، جعل الوزراء من مهامهم التطلع إلى العامل النفسي وتجهيز المواطنين لمرحلة مقبلة من تقبل الرسوم وضرائب القيمة المضافة. لقد تقبل المجتمع الدولي الأمير محمد بن سلمان الذي جاء برؤى منسجمة إقليمياً ودولياً، وكان أحد أهم البدايات تشكيل التحالف الإسلامي ضد الإرهاب في تصريح واضح أن بن سلمان يرغب أن يكون لاعباً رئيساً في مكافحة العقائد السياسية بشعاراتها الدينية التي أضرت بصورة الإسلام والمسلمين. وعند زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العاصمة الرياض في شهر مايو (أيار) الماضي، قال لدى عودته إلى واشنطن: إن السعوديين لديهم خطط جادة وحقيقية لإستئصال جذور الإرهاب". وعلى الرغم من أن المظلة المالية لهذا التحالف ستكون مكلفة اقتصادياً، إلا أن الأمير الشاب يرى أن السعودية لديها مسؤولية كبيرة في إعادة الاعتبار لوحدة المسلمين، وفكّ الارتباط الذي بات انطباعاً سائداً في الذهنية الغربية بين الإرهاب والإسلام. سياسة الحزم مع قطر، والحزم العسكري مع الحركة الحوثية في اليمن، والحزم الاقتصادي في قانون القيمة المضافة، والحزم الإداري مع وزراء المرحلة في الحكومة السعودية، تشير كلها إلى توجه في الحزم الناعم لتغيير مفاهيم اجتماعية يفرضها صوت واحد داخل المجتمع على حساب الأصوات الصامتة. يدرك الأمير جيداً أن لديه الكثير لتغييره، وهو يسعى إلى منح المجتمع حيوية في تنويع الأصوات. ويعتقد كثيرون أن ولي العهد السعودي الذي قام بتشكيل هيئة حكومية للترفيه، ومن أجل ايقاف هروب مليارات الريالات التي ينفقها السعوديون في كل إجازة في دبي والبحرين، سيكون أول من يعيد النظر في كل الملفات العالقة فيما يخص المجتمع والمرأة برؤية تطويرية وإصلاحية، تراهن على مصلحة البلاد ورفاهية العباد. ولعل إدخال السينما والسماح للمرأة بقيادة السيارة وهما الموضوعان الأكثر حضوراً وجماهيرية في التطلعات السعودية الشابة، جزء من خطة تطوير كبيرة قادمة ومرتقبة. *نقلاً عن مجلة "راشان فيو Russian View"