في تلك البلاد الباردة الجميلة ينهض ذلك السياسي من النوم الساعة الحادي عشر صباحا.. يتثاءب ويلتقط جواله ويتصل بمساعده ليخبره انه يشعر بفتور وخمول ويطلب إحضار صاحب الصالون المتخصص في الأناقة والتدليك وتحسين المظهر. ينهض ويغتسل ويضغط جرس الخدمة يطلب الفطور والقهوة والسجائر وعلبة الحلويات.. تطرق الباب فتاه جميله ساحره فتدخل ذلك الجناح الملكي ثم تقدم الفطور.. يبتسم لها ويمازحها فتبتسم بحنان ثم يفتح محفظته ويمنحها بقشيش إكرامية تحسين خدمه فتشعر الفتاه بالسعادة وتغادر.. يكمل فطوره فيدخل مساعده مع صاحب الصالون..هكذا دائما يأتي الى فنادقهم وغرفهم ويعمل لهم تسريحات وقصات الشعر الجميل ينظف وجوههم بمساحيق ويدهن أجسامهم ويرش عليهم عطور ساحره.. استرخى صاحبنا على الكرسي وأشعل سجارة ويتصفح جواله ويتابع التلفاز تارة أخرى.. اكمل الحلاق عمله ابتسم له ودفع له الإكرامية.. لقد ذهب هؤلاء في مهمات الواجب والوفاء للأرض والوطن والمواطن ليحملوا إحزان ومتاعب الناس.. يلبسون الساعات الأنيقة وعطور ساحره ورابطات العنق ويركبون احدث السيارات ويحضروا الولائم ويزورون المتاحف والمسارح ومسابقات الخيول ودنيا الموضة والسباحة والأندية الرياضية ويصرفون مال كثير ونثريات لا حدود لها.. لديه اليوم اجتماع الساعة الثامنة مساءا ومؤتمرات ونقاشات مع وفود ولجان ومانحين وداعمين أوربيون وأمريكيون وعرب وخليجيون ومندوبات لمنظمات دوليه وأثرياء انيقون ورجال مال ومذيعون ومذيعات جميلات وفضائيات عربيه وأوربيه ومحللون ونقاد وسياسيون. سيناقشون أزمة الانقلاب والمفاوضات والجرحى والمشردين وقضايا البنية التحتية والأعمار الشامل ودعم الخبز والدواء والراتب وملف الكهربا المحطمة والمياه والوقود وتفعيل كل متطلبات المواطن. يقوم يغتسل ويتأنق ويرش أفخم العطورات ثم يضغط الجرس طالبا طاولة الفواكه فيسترخي إمام التلفاز ويأكل مالذ وطاب..
فتح صاحبنا الملف الخاص بالعمل يتأمل ويراجع بعض النقاط وراح يقرأ عن انقطاع الكهرباء وتدهور العملة وارتفاع الأسعار واغتيالات وملف الجرحى وطوابير البريد والوقود والزحام والرواتب والفوضى وغياب الأمن والأمان...الخ وبحركة سريعة وعصبيه شديدة اغفل الملف وقال: ( اوووف كم هذا مقرف هذه بلاد تعيسة كأنها بلاد الجن..اوووف ايش يشتونا نعمل لهم دوخوا بنا جابوا لنا الضغط) فجاه يرن جواله ويتصل ابنه الذي يدرس في احد الدول الأوربية ويقول له: ( لقد دخلت يا أبي في تحدي مع بعض زميلات وزملائي بان آخذهم برحله بالقطار الى مدينه على ضفاف النهر وأتحمل كافة النفقات فلا تخذلني يا أبي.) يبتسم الوالد ويرد : ( حسنا بس لا تتأخر فوالدتك تريدك تذهب معها الى كندا لتعمل فحوصات..حاضر حبيبي ستصلك بعد دقائق رقم الحواله انتبه لنفسك.. بلغ زملائك تحياتي أتمنى لكم لحظات سعيدة) فنادق متعددة وسياسيون يلتقون هناك منهم من يحمل ملف الوطن الكبير ومنهم من يحمل قضايا الجنوب والتحرير وكل يغني على ليلاه...وفي خضم هذه الأجواء الاحتفالية والاستعدادات الكبرى وشرف الولاء والإخلاص وضمائر الرجال لمعالجة متاعب وإحزان البلاد يوجد على أبواب البريد طاعنون بالسن ينتظرون عشرون إلف ريال وعشرات السيارات تصطف طلبا للوقود.. ومرضى يرقدون في مستشفيات خاوية على عروشها تتعالى صرخاتهم وآلامهم ينادون الرجال الصالحين مساعدتهم بدبه أكسجين او غسيل للكلى او مبلغ لسداد فاتورة طبية.. في بلدي تتسع وتزداد أفواه الجائعين وتتضاعف خطوط الفقر..وينتشر المرض والشتات..ووجوه شاحبة منهكة وعيون مرهقه تتحرك شمالا يمينا ترقب محطات التلفزة عساها تبرق لهم من على شرفاه تلك الفنادق اي خبر سار يرسله لهم رجال الحكومة والوطن.. هناك في بلادي عمال تحرق المعيشة قلوبهم وتدك وتطحن حياتهم دون إي رحمه ولا اي تعويض فيما هم ينتظرون الزيادة لتعويض هذا الاختلال المعيشي فلا يجدون سوى منشور سبعه إلف ريال للدرجة الأخيرة بالهيكل لايساوي حتى قيمة كيلو صيد ومازال بالمشمش.. في بلدتي يتعرض الناس لقصف معيشي عنيف ومريع ومبتذل..وبين كل هذه البرامج القاصرة والمشلولة ورحلات السفر المكوكية وقصات الشعر والعطور وحفلات الفنادق والبهرجة ومنابر القنوات وخداع الناس بالوهمِ يظل كل مسؤول ينحت ويسطر لنفسه موقف معين سيتحدث به الزمن والتاريخ والأجيال وسيضعه يوما اما في صفحات مشرقه للرجال المخلصين وستتناقله كل أحاديث الشرف و الرجولة.. او انه سيرسم لنفسه مواقف ملطخه بخيانة العهود والوعود وسيكتوي به آجلا او عاجلا.. ولنا حديث آخر عن إعمال الرجال وضمائر النخبة.. انتهى