"في حالات عديدة فإن الالتزام الأخلاقي للدولة يتناقض مع مصالحها. ليس هذا هو الوضع في الحالة السورية، فوقف المذبحة في سوريا واستخدام السلاح غير التقليدي، إعادة بناء الدولة وتثبيت نظام يسيطر عليه الشعب، هي مطالب أخلاقية أساسية، تتطابق والمصالح الإسرائيلية". بهذه العبارات لخص رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق "عاموس يادلين" الموقف الغالب في مجادلات الحكومة والأجهزة الأمنية، فإسرائيل التي تعاني من حرب مستمرة سياسيًّا ودبلوماسيًّا تهدف إلى عزلها دوليًّا نتيجة استمرارها في تعطيل التسوية العادلة لصراعها مع الفلسطينيين سيكون من مصلحتها أن تقدم نفسها بصورة الدولة التي تنتصر لحق شعب يتعرض للقتل على يد حكامه (تأييد ضرب الأسد) كي تمحو صورتها الثابتة في الإعلام الدولي كدولة تنتهك حقوق شعب واقع تحت الاحتلال (الشعب الفلسطيني).
لكن على المستوى الأمني ثمة اختلافات واضحة في الحكومة الإسرائيلية والمؤسسات الأمنية بل في أوساط الرأي العام الإسرائيلي حول تبعات توجيه ضربة أمريكية لنظام الأسد، سواء أكانت الضربة المحتملة محدودة وتستهدف عقاب النظام السوري وردعه عن تكرار استخدام أسلحه غير تقليدية وفقط، أم كانت ضربة موسعة تسعى لإسقاط الأسد، ودعم المعارضة السورية من أجل بناء نظام جديد يكون أكثر استعدادًا للتحالف مع الغرب.
ثمة اعتقاد بأنه رغم التزام الحكومة الإسرائيلية بعدم إظهار موقف رسمي من تطورات الأوضاع في سوريا، إلا أن ما يصدر من تصريحات من سياسيين وخبراء أمنيين ويصب في أغلبه في اتجاه تشجيع الولاياتالمتحدة على توجيه ضربة عسكرية لسوريا، يمثل بشكل غير مباشر موقف الحكومة الإسرائيلية، وعلى الطرف المقابل نجد الرأي العام الإسرائيلي قلقًا من وقوع مثل هذه الضربة، ربما لوجود احتمال بأن يأتي الرد السوري بإطلاق صواريخ على المدن الإسرائيلية مثلما فعل صدام حسين عام 1991. وبعيدًا عن مخاوف الرأي العام الإسرائيلي تناقش النخب الإسرائيلية سيناريوهين للضربة المحتملة:
أولا: سيناريو الضربة المحدودة( إضعاف الأسد)
الاعتقاد السائد بين الخبراء الأمنيين في إسرائيل أن هذا السيناريو هو الأفضل بالنسبة لإسرائيل كون نتائجه المحتملة هي:
- عدم سقوط نظام الأسد بما يحد من إمكانية ظهور نظام بديل يتكون من جماعة الإخوان المسلمين وبعض التيارات الجهادية، والذي يمكن أن يشكل خطورة بالغة على أمن إسرائيل في المستقبل المنظور بسبب العداء الأيديولوجي من جانب الإسلاميين ضد الدولة العبرية.
- تراجع احتمالات أن يرد الأسد على الضربة الأمريكية المحدودة بتوجيه ضربة انتقامية لإسرائيل؛ إذ لن يكون الأسد حريصًا على تصعيد الأوضاع بما يؤدي إلى تدخل إسرائيلي مباشر في الصراع، الأمر الذي قد يزيد من ضعف سيطرة الأسد على الوضع، وزيادة قدرة معارضيه على توجيه ضربة عسكرية تُنهي النظام.
- أن الضربة الأمريكية المحدودة لسوريا ستقلل من مخاوف الرأي العام الإسرائيلي من احتمالات توسع القتال، وتضرر المدن الإسرائيلية من رد سوري انتقامي.
- التغيير الطفيف الذي ستحدثه الضربة المحدودة في موازين القوى بين قوات الأسد وقوات معارضيه ستطيل أمد الصراع بما يعني استمرار استنزاف الجيش السوري وحليفه حزب الله (الذي يشارك بجزء من قواته في الصراع) وبما يعني تخفيف العبء الأمني على إسرائيل، خاصة على الحدود مع سوريا ولبنان، كما أنه يستنزف بالقدر نفسه قوات المعارضة التي يمكن أن تشكل بتوجهاتها الأصولية الإسلامية خطرًا محتملا في المستقبل المنظور.
- مهما كانت محدودية الضربة الأمريكية وتأثيرها على مجريات الصراع الداخلي في سوريا، إلا أنها ستشكل رسالة ردع هامة لإيران محتواها أن الغرب لن يسكت على محاولاتها الحصول على البديل النووي مثلما لم يسكت على النظام السوري حينما استخدم السلاح الكيماوي ضد معارضيه، وأن استمرارها في تطوير مشروعاتها النووية قد ينعش سياسة "أن الخيار العسكري على الطاولة" وهي السياسة التي تتبناها الإدارة الأمريكية لمحاولة كبح جماح الطموحات الإيرانية، وتهدئة المخاوف الإسرائيلية.
- قد لا تُضعف الضربة المحدودة محور (إيران - سوريا - حزب الله)، ولكنها لن تؤدي أيضًا إلى تقويته بما يجعل حركة التفاعلات الإقليمية على حالها دون مردود سلبي على إسرائيل وحتى إشعار آخر. - لن ترتب الضربة المحدودة احتمالات كبيرة لممارسة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي ضغوطًا كبيرة على إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين من أجل التوصل إلى تسويه نهائية للصراع العربي-الإسرائيلي.
ثانيا: سيناريو الضربة الموسعة ( سقوط الأسد)
رغم أن احتمالات أن تقوم الولاياتالمتحدة بشن عملية عسكرية واسعة النطاق تشتمل على دخول قوات أمريكية للأراضي السورية ليس أمرًا واردًا، في ظل ما يتم من تسريبات حول التفويض الذي سيقدمه الكونجرس للرئيس الأمريكي والذي يشدد على ألا يتضمن ذلك منحه حق إرسال قوات أمريكية للمشاركة في القتال داخل سوريا؛ رغم ذلك لا توجد ضمانات حقيقية لعدم تحول العملية المحدودة إلى عملية شاملة، خاصةً إذا ما تمت الضربة تحت اسم "تحالف دولي" تقوده الولاياتالمتحدة، ويشمل: تركيا والأردن وفرنسا ودولا أخرى.
ويبدو أن هناك خلافات بين تركيا وفرنسا من جانب، والولاياتالمتحدة من جانب آخر، حول أهداف العملية، فالولاياتالمتحدة تصر على أن هدف الضربة يقتصر على عقاب الأسد، ومنعه من تكرار استخدام السلاح الكيماوي ضد شعبه مرة أخرى، بينما تريد فرنسا وتركيا أن يكون الهدف هو إسقاط النظام. وتجدر الإشارة هنا إلى حصول رئيس الوزراء التركي رجب أردوغان على تفويض من البرلمان "بتوجيه أوامر للجيش للقيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي السورية ل"حماية الأمن القومي" إن لزم الأمر".
إن تحول الحرب المحدودة إلى حرب شاملة لإسقاط الأسد سيرتب مخاطر عديدة على إسرائيل يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- احتمال أن يلجأ الأسد لتوجيه صواريخه نحو إسرائيل -التي لن تتوانى عن الرد- على أمل خلط الأوراق، والحصول على دعم الرأي العام العربي والإسلامي، وإجبار تركيا والأردن تحديدًا على التراجع عن الاستمرار ضمن التحالف الأمريكي.
- من المحتمل أن يشارك حزب الله في الحرب بإطلاق آلاف الصواريخ ضد المدن الإسرائيلية على نحو أكبر مما حدث في حرب عام 2006، والتي استمرت أكثر من شهر دون أن تتمكن إسرائيل من ردع حزب الله، واضطرارها في النهاية للقبول بتوقيع اتفاق هدنة معه.
- لا يستبعد أن تتدخل إيران في الصراع على نحو متدرج يبدأ بالدعم السياسي والإمداد بالسلاح لنظام الأسد، وقد يتطور إلى مشاركة واسعة بإرسال جنود إلى سوريا، وتوجيه ضربات صاروخية لإسرائيل والقوات والمصالح الأمريكية في المنطقة.
- حتى لو سقط الأسد ونظامه دون حدوث التطورات السابقة، فإن عدم وجود بديل يمكنه السيطرة على الأوضاع سيدفع بالاقتتال الأهلي في سوريا إلى ذروته، وقد تظهر مناطق فوضى على الحدود الإسرائيلية-السورية يمكن أن تحتلها الجماعات الجهادية وحتى حزب الله، وتقوم بعمليات تسلل، وإطلاق صواريخ منها تجاه الأراضي الإسرائيلية، وبذلك يتزايد العبء الأمني على إسرائيل بأكبر مما هو قائم حاليًّا في مناطق جوار أخرى، سواء في قطاع غزة أو سيناء وجنوب لبنان.
- في حالة تأخر تحقيق هدف إسقاط الأسد قد تضطر تركيا للتدخل بقوات برية بحجة حماية أمنها القومي، وإذا ما تمكنت القوات التركية من إسقاط الأسد فإن تفكك محور (إيران - سوريا - حزب الله) على الرغم من أنه مكسب لإسرائيل فإنه يرتب خسائر أخرى قد تنجم عن تقوية مكانة تركيا الإقليمية التي ستحاول استرداد ما خسرته بعد سقوط حكم الإخوان في مصر عبر تشكيل محور بقيادتها يضم سوريا وحركة حماس.
- من المؤكد في ظل تحفظ معظم الدول العربية والرأي العام فيها على توجيه ضربة عسكرية لسوريا، أن تتصاعد مشاعر العداء في العالمين العربي والإسلامي تجاه الغرب وإسرائيل، وتدرك إسرائيل قياسًا على تجربة الحرب ضد العراق عام 1991 أن الأمر قابل للتكرار، بمعنى أن تحاول فرنساوالولاياتالمتحدة تخفيف حدة العداء المنتظر تجاه الغرب عامة في حالة إسقاط الأسد بالضغط على إسرائيل من أجل تقديم تنازلات في الملف الفلسطيني.
كما يمكن أن تستغل تركيا وضعها كركن أساسي في التحالف ضد سوريا لكي تثبت للعالم الإسلامي أن مشاركتها في التحالف ونجاحها في إسقاط الأسد كان ثمنه الفعلي إجبار إسرائيل على الدخول إلى التسوية بمسار يخدم المصالح الفلسطينية، وهو ما يمكن تركيا أيضًا من تعزيز مكانتها إسلاميًّا وعربيًّا، وينعكس إيجابًا على دورها الإقليمي.
- لم تكن إسرائيل تريد توريط نفسها بشكل مباشر أو غير مباشر في قرار الولاياتالمتحدة بضرب سوريا، غير أن قرار أوباما بالحصول على تفويض من الكونجرس قد ورطها فعليًّا، فالمعروف أن نفوذ إسرائيل واللوبي اليهودي (خاصة منظمة الإيباك) في الكونجرس يفوق نفوذهما في البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الخارجية، ومن ثم تخشى إسرائيل من أن يطول أمد الحرب على سوريا، واحتمال تعرض المصالح الأمريكية والقوات الأمريكية في البحر المتوسط والأحمر لهجمات انتقامية يسقط فيها جنود أمريكيون، الأمر الذي يزيد من حدة غضب الرأي العام الأمريكي تجاه إسرائيل وجماعات الضغط اليهودية.
ويلاحظ في هذا الصدد أن منظمة الإيباك قد أصدرت بيانًا تحث فيه الكونجرس على تقديم التفويض لأوباما مع التأكيد على أن ذلك يخدم المصالح الأمنية الأمريكية، دون إشارة إلى استفادة إسرائيل من القرار.
الإطاحة بالأسد.. خيار أكثر عبئا
تؤيد إسرائيل بوضوح توجيه ضربة محدودة إلى سوريا تُبقي الأسد ضعيفًا ولكن لا تطيح بنظامه، أما الضربة الواسعة النطاق التي تستهدف إسقاط النظام السوري فمن شأنها أن تضع أعباء أمنية كبيرة على إسرائيل قد تصل إلى حد تعرض مدنها لدمار واسع، وأيضًا احتمال اضطرارها للتدخل بقوات برية لحماية حدودها.
وعلى جانب آخر فإن الإطاحة بنظام الأسد بدون وجود البديل الذي يحافظ على مركزية الدولة السورية يمكن أن يؤدي إلى نشوء دويلات معادية، بعضها خاضع لإيران وحزب الله، وبعضها الآخر خاضع للنفوذ التركي، بخلاف مناطق أخرى غير مسيطر عليها قد تستغلها الجماعات الجهادية كمنطلق لشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل مستقبلا.
وحتى لو كان هناك بديل سيكون أقرب للنفوذ التركي بما يخلق محورًا يضغط على إسرائيل، ويضعف نفوذها الإقليمي، وقد يستغل هذا المحور (تركيا، سوريا، حماس) من جانب الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لإجبار إسرائيل على القبول بتسوية مع الفلسطينيين لا تكون في صالح إسرائيل.