في نهاية العام 1988 عاد عبدالعزيز بوتفليقة من منفاه الموزع بين الإمارات واليمن "عاش في الحديدة وصنعاء" إلى الجزائر بعد منفى دام 7 سنوات، لاحقته فيها تهم فساد مالي وإداري واسع، وفي إبريل 1999 أصبح رئيساً شرعياً للبلاد، في ظروف بالغة التعقيد، أبرزها مقتل الرئيس محمد بوضياف، واضطرابات عصيبة، وبوادر حرب أهلية عصفت بالاقتصاد الوطني، فكان بوتفليقة مرشح الضرورة. حكمة بوتفليقة وهدوئه مكنه من إعادة الاستقرار للبلاد، وعلاج أوجاع الاقتصاد، ونزع فتيل الحرب، دون أن يصطدم بأية جهة أو طرف، الأمر الذي أقنع الشارع الجزائري بإعادة انتخابه لولاية ثانية في 2004، ثم لولاية ثالثة في 2009، وما بينهما جلطة أدخلته مستشفيات فرنسا في ديسمبر 2005. وفي ابريل الماضي أعادته جلطة دماغية أخرى إلى المستشفى العسكري بباريس، ليعود بعد 80 يوماً محمولاً على كرسي متحرك، معتزماً التشبث بكرسي الحكم، حتى يتدخل عزرائيل شخصياً، وهو السلوك الذي ترجمه إعلان الجمعة الماضية بفوز بوتفليقة بولاية رئاسية رابعة، ستنتهي في ابريل 2019. بوتفليقة ذهب إلى صناديق الاقتراع بواسطة كرسي متحرك يقوده حارسه الشخصي، ويرافقه صبي في ال12 من العمر، كان في الصورة ثلاثة مشاهد تختصر حكاية ثلاثة أجيال: رجل مسن بساقين ضامرتين ووجه مترهل وعيون ذابلة لا تحمل غير رؤية الجلوس على العرش، وشاب فتي يحرسه ويدفع كرسي سيده إلى الأمام، وفي وده لو يدفع به إلى عالم الآخرة، وصبي لا يرافق الرئيس بقدر ما يمثل حضوراً رمزياً لتشييع حلم جيله، سينظر الصبي إلى فوهة الصندوق كهاوية سحيقة، وربما سيقول لنفسه: 200 سنة لا تكفيني في الوصول إلى الحكم. كأن بوتفليقة يرى أن لقب "الرئيس السابق" منقصة بحق الجنرالات، الذين يجب أن يعيشوا تحت ظلال "فخامة الرئيس" ويشيعوا ملفوفين بصفة "الرئيس الراحل"، وما بين اللقبين أشياء لا تقبلها نفسية العسكر. بوتفليقة (77 عاماً) لا يزال يرى أنه مرشح الضرورة الوطنية، وأن نسبة الفوز دليل إجماع شعبي، وليست دليل تزوير لإرادة شعب، فيما المعارضة لا ترى الصناديق غير توابيت لتشييع الديمقراطية الجزائرية. في دول الغرب لا يوجد دستور ينص على فترة رئاسية أكثر من ولايتين، وتتراوح الولاية بين 4 سنوات كأمريكا أو خمس سنوات كفرنسا، وهذا الضبط الدستوري لم يكن اعتباطياً بل احتراماً لدراسات علمية معمقة، تقول إن كل إنسان يحمل هم رئاسة دولة، لا يمكنه أن يعمل بذهنية قوية وعقلية متجددة أكثر من 10 سنوات.. الدراسة أرادت أن تشير إلى أن الحكام العرب قد انتهت صلاحيتهم قبل عشرات السنين. أقدر لبوتفليقة موقفه النضالي والبطولي خلال سنوات رئاسته الأولى وما تلاها، فقد حقن دماء الجزائريين وحفظ البلاد من الانهيار الكلي، وما لا أقدره له، هو عبثه بنفسه، والتعامل مع جسده كريبوت آلي، إذ يجب أن يرتاح ويفسح المجال أمام أجيال صاعدة يجب أن تعبر عن نفسها، وعصرها. كيف لبوتفليقة أن يدير دولة بكرسي متحرك وساقين ضامرتين، سيتحول من مركز لكاريزما إلى مثير للشفقة، إذ كيف سيهابه وزراء ومحافظون وضباط وأمنيون، وكيف سيستقبل وفودا أجنبية ومستثمرين محليين ودوليين ودبلوماسيين، كيف سيتفقد مؤسسات الدولة في المحافظات والمديريات البعيدة، وماذا عن خطوته العسكرية في المعسكرات، وهو الذي لم يبقَ من عافيته غير ما يصلح للاستخدام المنزلي فقط. * روح السفير الجميل كم اشتاق الآن لسماع صوت صديقي السفير الجزائري السابق بصنعاء سعد بن العابد، لم يعد بيننا، فقد انتهت مهمته الدبلوماسية في 2009.. زرته مرات كثيرة في مكتبه بالسفارة الجزائرية، والتقينا كثيراً في اتحاد الأدباء ومؤسسة العفيف الثقافية وفي ندوات أدبية وفكرية، كان رجل تنوير وثقافة وفكر وأدب. *عن صحيفة الناس [email protected]