إن السير بعشوائية أو بظاهرة "البدا" وهي ملخصة في مثل يقول "ما بدا بدينا عليه"، أو برد فعل اللحظة، هو أمر مذموم لا تقاد به الدول ولا الحركات ولا المؤسسات، وللأسف إن هذا أصبح ظاهرة، وهنا يصاب الفرد بالملل والكلل ويفقد الرغبة في التواصل والمواصلة والسمع والطاعة والالتزام ويؤدي إلى التفلت والفساد المالي والإداري الرسمي والأهلي. لقد ضرب الله مثلا يذم هذا الصنع العشوائي "الكبكبة" المزرية (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم)، أي: من يمشي على نظام الكب العشوائي لا ينظر إلا إلى تحت قدميه هل هو على هدى أم من يمشي سويا معتدلا على طريق مرسومة مفهومة مهدفة مستقيمة. انظروا مثلا إلى خطبة الجمعة (48) خطبة في السنة ما وضعها الله إلا لحكمة عظيمة نهضوية بالروح والمجتمع. يجتمع الكل حتى قطاع الصلاة ويمنع البيع والشراء والأنشطة الأخرى، يمنع الكلام واللغو، يمنع تخطي الرقاب، يشرع الدنو من الخطيب، يشرع التبكير.. لماذا كل هذا؟ إنهم ينتظرون أمرا هاما، إنه زاد أسبوعي يرتقي بهم ويبني، ويقيم، ويصف الحلول. هذه هي خطبة الجمعة ويوم الجمعة الذي أصبح عرين الثورات الربيعية ومنطلقها. دعوني أقول إن العشوائية وعدم التخطيط وتحديد الهدف أدى إلى أن يلقي الخطباء -أعني كثيرا منهم- كلاما لا معنى له ولا واقعية ولا تأثير، بل ربما أصبحت الأحزاب والجماعات تتصارع على المنابر كغنيمة للكسب المحدود لا لكسب المجتمع وتغييره، وكم يأثم هؤلاء في تضييع فرصة هذا اليوم العظيم في بناء النفس والروح والمجتمع حينما دخلها التناكف والصراع وعدم الهدف أو ضبابيته. وهذه الصحف والإعلام المسمى بالسلطة الرابعة تستطيع لو وضعت أهدافا للحياة الطيبة أن توجد الأمل والطموح والفضيلة والنهوض لا المكدرات والخوفيات والمحبطات التي تزرع الألغام النفسية التي تنفجر بمجرد الضغط النفسي على أزرارها العديدة. إذا كنت في نقابة أو حزب أو تنظيم أو مؤسسة أو إدارة رسمية أو غيرها أو في أي مكان على الأرض وكنت تريد النجاح والالتزام من القيادة والأعضاء ومن الإدارة والموظفين والسمع والطاعة من الأفراد وكان الهدف غائبا أو مهمشا أو مختلا أو منسيا والخطة منعدمة أو مركونة في الأرشيف وذاكرة الحاسوب لا في الواقع أو عشوائية أو يعمل ببعضها ويكفر ببعض أو تفعل بالتجزئة المزاجية.. هنا أنت لا تستحق أن يكون معك أحد؛ لأنك أردت ذلك، وقد يبقى معك فريق لشدة حاجتهم ووضعهم الضروري كمحطة لابن السبيل العابر يهجرونك في أول فرصة. وهنا ندرك السبب في أن الكفاءات والأفذاذ والعقليات لا يبقون في مثل هذه البيئة أو المؤسسة أو الدولة أو الحزب أو التنظيم. فمنهم من يغادر ومنهم من ينتظر، ولذلك يحافظ على استمرار حاجتهم وفقرهم الملح أطول فترة ليطول بقاء فئام في مراكزهم ورعاع في مصالحهم ومسارحهم. وهنا يجاب على سؤال خطير سيضع نفسه: لماذا الحرص على استقرار مثل هذا، مع أنه عنوان فشل ودمار وتخلف شامل يحدث جاهلية تعليمية وفقر ومرض وفساد مالي وإداري وإفساد في الأرض؟ الجواب باختصار: لا بد أن هناك نفوسا في كوامنها هذا الفساد ولن تستمر إلا به.. قد تكون جهة أو فئة أو حزبا أو أسرة.. قد تكون قائدا، رئيسا، مديرا، مسئولا، سمسارا، تابعا أو متبوعا. المهم أن يتعايش مع العشوائية والفساد؛ لأنه بدونه سيكون مرفوضا، أو على الأقل سيفقد مصالحه، بعضها أو كلها، وهذا هو حال الكثير من المؤسسات والتنظيمات والمكونات في العالم الثالث. ولذلك تتأبد مناصب ويتأبد معها التخلف والفساد وليخسأ الخاسئون.