إذا كان الأمن العالمي هو أمن الولاياتالمتحدةالأمريكية كما قررت إدارة الرئيس جورج بوش في وثيقة الأمن القومي الأمريكي الشهيرة، فما هي العلاقة بين هذا الأمن والإصلاح السياسي في الشرق الأوسط؟ يثير هذا السؤال مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي أطلقتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم ما لبثت أن طرحتها في اجتماع الدول الثماني الكبرى لتحصل على تصديقها عليها، وبغض النظر عن اعتراض بعض الدول العربية على بعض ما جاء في الوثيقة، ورفعها حجج أهمية مراعاة الخصوصية الثقافية وضرورة عدم الاندفاع وتطبيق منهج التدرج، فإن الدول الثماني أقرت الوثيقة بعد إدخال البعد الأوروبي فيها، بالإضافة إلى تحديد آليات خاصة للتنفيذ، بل وإعطاء مسئوليات محددة لكل دولة لمتابعة خطة الإصلاح. والحقيقة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية قد صاغت نظرية متكاملة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حاولت فيها أن تفسر أسباب وقوع الحوادث الإرهابية، وأهم من ذلك لماذا ينبع الإرهاب على وجه الخصوص من البلاد العربية والإسلامية، وذلك على أساس أن الإرهابيين الذين قاموا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر كانوا كلهم عرباً وملسمين. والنظرية بسيطة في تكوينها لدرجة السذاجة أحياناً، نظراً لاختزالها حقائق بالغة التعقيد في معادلات تبسيطية قامت على أساسها النظرية الأمريكية في الإصلاح السياسي، فالإرهاب في نظر هذه النظرية هو نتاج الفكر المتطرف السائد في البلاد العربية والإسلامية، وهذا الفكر بدوره لم يكن لينمو ويسود المناخ الثقافي في هذه البلاد، لولا انسداد آفاق التعبير السياسي الطليق أمام الملايين من شباب هذه المجتمعات، وتقييد المشاركة السياسية لهم أدى إلى ظاهرة الاغتراب الاجتماعي السائدة، والتي تعني بالتحديد إحساس هؤلاء الشباب بعدم السيطرة على مصيرهم وعدم التحكم في مستقبلهم، ما أدى بالانقلاب على نظم دولهم السياسية قبل أن ينتقلوا إلى الإرهاب العالمي، نتيجة سياسات امريكية مجحفة بالعرب والمسلمين وخصوصاً في فلسطين، بالإضافة إلى احتلالهم الأراضي المقدسة في السعوية، وتواجدهم العسكري المكثف في منطقة الخليج. ومن هنا تخلص النظرية الأمريكية إلى أن الحل الأمثل هو فتح القنوات السياسية المسدودة في البلاد العربية والإسلامية، التي تسودها نظم تسلطية استبدادية إن لم يكن من خلال حث النظم السياسية العربية على التغيير الطوعي، فبالضغط السياسي والاقتصادي والثقافي. مصالح أمريكية وتصورات سياسية ولا تخفي المصادر الاستراتيجية الأمريكية حقيقة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لها مصالح محددة تتمثل في تحقيق عدد من الأهداف. وأول هدف معلن هو محاربة الإرهاب، وليس هذا مستغرباً بحال، لأن جماع الاستراتيجية الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تقوم على أساس الحرب ضد الإرهاب، والتي جعلت منها الولاياتالمتحدةالأمريكية غطاءً يخفي أهدافها الحقيقية والتي تتمثل في ضمان الإمداد المستمر بالنفط، وتأكيد هيمنتها المطلقة على شئون الكون بحكم أنها الإمبراطورية الكونية بلا منازع، التي تطمح إلى أن تحكم العالم إلى أبد الآبدين! بل إنه أكثر من ذلك لديها استراتيجية معلنة لإجهاض محاولة أية قوة دولية كالصين مثلاً لمنافستها، حتى باستخدام القوة العسكرية لتبقى هي القطب الأوحد. وإن كانت الجماعات الإرهابية تعتمد أساساً على البلاد العربية والإسلامية في مجال تجنيد الكوادر والتمويل معاً، فلا بد إذن من التركيز على هذه البلاد لتجفيف منابع التطرف، واستئصال شأفة الإرهاب. ومن ثم يقع على عاتق الولاياتالمتحدةالأمريكية واجب مساعدة شركائها من الحكومات العربية والإسلامية لمحاربة الإرهاب، وعلى المستوى الشعبي ضمان ألا تتوجه فئات من سكانها لتنضم إلى الجماعات الإرهابية. والهدف الثاني المعلن في قائمة المصالح الأمريكية هو ضمان عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الشرق الأوسط، ويؤكد هذا أن الغزو الأمريكي العسكري للعراق تم تحت شعار القضاء على التهديد العراقي للأمن الأمريكي والعالمي، على أساس امتلاك العراق لأسلحة التدمير الشامل، وإن كانت الأحداث لم تثبت هذه الحجة الكاذبة، غير أن هذا الهدف الثاني هو الذي يفسر السياسات العدوانية الأمريكية ضد إيران بحكم سيرها في طريق التطوير الذري، وذلك بتحريض مباشر من إسرائيل، والتي وضعت خططاً عسكرية لضرب المفاعلات الذرية الإيرانية، إن وصلت المسألة إلى مرحلة الخطر الذي يهدد أمن إسرائيل. والهدف الثالث المعلن للمصالح الأمريكية هو ضمان تدفق النفط واستقرار أسعاره في نفس الوقت. والهدف الرابع هو ضمان أمن الأنظمة السياسية العربية والإسلامية الصديقة، والصداقة هنا تعنى بكل بساطة التزام هذه الأنظمة بتنفيذ التوصيات، وتحقيق أهداف الأمن القومي كما تحدده الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما الهدف الكبير فهو ضمان أمن إسرائيل: والولاياتالمتحدةالأمريكية ترى في إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة الموالية تماماً للغرب، في سياق منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالاضطرابات.. وترى الولاياتالمتحدةالأمريكية أن لإسرائيل دوراً محورياً في محاربة الإرهاب ومواجهة التهديدات العسكرية لمنطقة الشرق الأوسط في نفس الوقت.. وترى المصادر الاستراتيجية الأمريكية أن نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي يؤيد إسرائيل، ومن هنا التزام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالأمن الإسرائيلي، والذي يترجم عملياً في الواقع بالانحياز الفاضح للدولة الإسرائيلية، وتأييد كل سياساتها القمعية ضد الشعب الفلسطيني حتى ما كان منها يمثل إرهاباً للدولة، أو جرائم ضد الإنسانية، وهي تستخدم حقها في الفيتو لمنع صدور أي قرار من مجلس الأمن ضد إسرائيل. صور الإصلاح السياسي ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هو ما سر اهتمام الولاياتالمتحدةالأمريكية بتحقيق الإصلاح السياسي في البلاد العربية والإسلامية؟ والإجابة: لأن ذلك يحقق مصالحها القومية كما أشرنا من قبل، بالإضافة إلى عامل معياري آخر، هو أن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فيما ترى المصادر الأمريكية هي قيم أمريكية أصيلة ينبغي نشرها في كل أرجاء العالم. وهناك من وجهة النظر الأمريكية عوامل متعددة تدعو للإسراع بتحقيق الإصلاح السياسي، ولعل من أهمها أن البلاد العربية تواجه العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والتي قد تلهب مشاعر السخط الشعبي ضد الحكومات، مما قد يؤدي إلى حالة من حالات عدم الاستقرار السياسي. وتحاول بعض المصادر الاستراتيجية الأمريكية تحديد صور الإصلاح السياسي التي ينبغي الأخذ بها، وأولها هو تأسيس مجالس منتخبة على كل المستويات، وهذه المجالس تساعد على تنمية الديمقراطية لأسباب شتى، أولها أنها تزيد من مساحات التعبير عن المطالب السياسية، وترفع من نوعية المناقشات الخاصة بالسياسة العامة، من خلال تشجيع الحوار السياسي، وهكذا تتاح منافذ للتعبير للمواطنين، يعبرون من خلالها عن إحباطاتهم أو رضاهم عن السياسات العامة. ومن ناحية ثانية فهذه المجالس تحقق مطلب سن التشريعات التي تحقق المطالب السياسية وتقر الميزانية، وهذه المجالس ثالثاً توفر الشرعية للقرارات الحكومية، ما يساعد على الدعم العام لها ويسهل تنفيذها، ومن ناحية رابعة فهذه المجالس تقوم بمهمة محاسبة الأجهزة التنفيذية، وهي أخيراً منبر لحل النزاعات بشكل سلمي بين الاتجاهات السياسية المختلفة، والمشكلة كما تقول المصادر الأمريكية أن هناك بالفعل في العالم العربي أنماطاً متعددة من المجالس المنتخبة ولكن يعوق عملها قيود وحدود سياسية وواقعية، مما يحد من فاعليتها. وهناك فيما ترى المصادر الأمريكية وسيلة أخرى لتحقيق الإصلاح السياسي، وهو تشجيع صورة مجالس الشورى التي تسمح بالتعبير عن مصالح الناس، وإن كانت في التطبيق يبدو دورها محدوداً في التأثير في السياسات العامة. وترى النظرية الأمريكية في الإصلاح السياسي أن تشجيع قيام الأحزاب السياسية بغير قيود أو حدود يعتبر حجر الزاوية في تنمية الديمقراطية، وترى المصادر الأمريكية أن الأحزاب السياسية العربية تعاني من مشكلات متعددة أهمها ضعف هيكليتها الداخلية، وافتقارها للموارد المالية، بالإضافة بالطبع إلى القيود التي تضعها الدول العربية على قيامها وأدائها لوظائفها السياسية. ولذلك يلفت النظر في مبادرة الشرق الأوسط الكبير، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تريد إقامة خطوط اتصال مباشرة مع الأحزاب السياسية العربية لمساعدتها من خلال صور التعاون الفني المتعددة على إعادة هيكلة نفسها، ومن خلال المساعدة المالية المباشرة إلى تدعيم مواردها. ولا شك في أن هذه التوجهات الأمريكية تثير احتجاجات حكومية عربية لأسباب مفهومة، وتبرز شكوكاً مبررة لدى فئات واسعة من المثقفين العرب عن الاختراق الأمريكي المعتمد لصميم المجتمع السياسي العربي، وفرض التبعية عليه، بل وإلحاقه بكل بساطة من خلال الدعم المالي والتعاون الفني لوزارة الخارجية، لتكون مجرد أداة من أدواتها! ونفس الاعتراضات منطبقة على السياسة الأمريكية في دعم منظمات المجتمع المدني العربي سياسياً ومالياً، وقد خصصت الولاياتالمتحدةالأمريكية ميزانية ضخمة لمنحها للمجتمعات غير الحكومية العربية لتحقيق أغراضها وتنفيذ السياسة الأمريكية بالطبع من خلالها، وهي سياسة تواجهها اعتراضات شديدة من قبل المثقفين العرب الملتزمين الذين لا يرون في هذه السياسة سوى رشوة منظمة، وإفساد معتمد للنخب الثقافية العربية. وتركز الولاياتالمتحدةالأمريكية في إصلاحها السياسي المعلن على حرية الصحافة وكذلك على سيادة القانون. وأياً ما كان الأمر فإن الإصلاح السياسي على الطريقة الأمريكية وإن كانت قيمه المعلنة لا خلاف بشأنها، إنما المشكلة تكمن في خفة وسطحية الطرح الأمريكي لمشكلات التطور الديمقراطي في العالم العربي، بالإضافة إلى النية الأمريكية المعلنة في إخضاع هذا العالم بدوله المتعددة، ليصبح أشبه ما يكون بمستعمرة أمريكية .