يوم أن غادرت القرية ذات عام مضى ودعت من جملة خصائص وعلامات القرية «الفوانيس» وكنت أظن يومها أن المدن خالية من الفوانيس ومن وسائل الإضاءة التقليدية الأخرى كالشمع مثلاً وأن الكهرباء في المدن طاقة لا تنفد. حدثت نفسي وحدثتني أن مشكلتي الماء والكهرباء الحاضرتين بقوة في القرى لا مكان لهما في المجتمع الذي سأنتمي اليه بعد وصولي الى المدينة، فكانت مدينة تعز التي قدمت اليها من إحدى قراها هي المحطة الأولى اكتشفت بعد وصولي اليها بساعات قلائل أن مشكلة الماء فيها أشد وطأة من مشكلة الماء في القرية التي جئت منها وأكبر بكثير حيث لا بئر قريبة يمكن الذهاب اليها للحصول على ما تيسر من الماء لأغسل عين غبار السفر فكانت مشكلة الماء في تعز أول صدمة حضارية واجهتها في المدينة مضى عليها حتى اليوم أكثر من عشرين عاماً ولم تزل على ما كانت عليه في ذلك الوقت. أما مشكلة الكهرباء وهي مشكلة عامة في البلد وإن كانت حاضرة منذ ذلك الحين لكن حضورها اليوم أكبر بكثير لدرجة أن انقطاع التيار الكهربائي يومياً وأكثر من مرة في اليوم والليلة صار مألوفاً وسمة من سمات المدن اليمنية والقرى التي وصلت اليها الكهرباء وان عدم الانقطاع هو المستغرب والمخيف فالانقطاع المؤقت خير من الانقطاع الدائم. مشكلة الانقطاعات الكهربائية هي التي أوجدت الفوانيس والشموع في المدن مرة ثانية وكنت أظنها قد انقرضت على الأقل في المدن وفي حضرة الكهرباء لكن ظني لم يخب هذه المرة وكلما انقطع التيار الكهربائي اتذكر أني من مواليد برج الفانوس ولا شك أن هناك الكثير مثلي من مواليد هذا البرج. وحده الفانوس العتيق الوحيد في المنزل كان حاضراً بضوئه الخافت الحزين ليلة وصولي الى هذه الدنيا قبل عقود من الزمن، كان معلقاً بحبل متهالك يوشك أن ينقطع وكنت أراه في سماء الغرفة أو هكذا أحسب أنه قد كان مثل كوكب الزهرة وظل صامداً في مكانه لم ينقطع حبله لأن حبال الضوء لا تنقطع وتوالت المواليد وهو يمد القادمين بالضوء وتكتحل عيونهم به. وحدها لحظات الظلام حين تنقطع الكهرباء تذكرنا كل يوم وكل ليلة بتلك الأجواء التي مرت على الكثيرين منا والذين هم من مواليد برج الفانوس فلا يمكن للكهرباء أن تفرق بينهم وبين فوانيسهم وشموعهم وإن أرادت ذلك، وللتأكيد على صدق انتمائي لهذا البرج فإني أعشق مفردة الفانوس عشقاً لا أعلم سره إلا من باب الأبراج فقط فتراني أنسب الأشياء كلها له فأقول فانوس رمضان ومنه فانوس السمر وفانوس السحر والسحور وفانوس الحب وفانوس الحياة وحتى الحزن له في حياتي «فانوس» ومثله القهر والضجر حتى صارت حياتي كلها فوانيس بحلوها ومرها، أفراحها وأتراحها، قراها ومدنها، وبالمناسبة فإن هذا الموضوع قد كتب على ضوء فانوس، وفكرته جاءت كذلك ولا علاقة للفانوس بالأخطاء.