انتقال الطالب من المدرسة إلى الجامعة يعدّ في حقيقته تغيراً جذرياً في أسلوب التعلم وطريقة الحصول على المعرفة ، فإذا كان الطالب في المدرسة يمثل دور المتلقي أو الخازن للمعرفة فإنه في الجامعة لا يمثل إلا دور الناقد أو الباحث الذي يسعى للحصول على المعرفة من خلال جهده الذاتي وميله الكامل للنهم المعرفي ... فهو شغوف بالقراءة متتبع للمصادر والمراجع المختلفة والمتعلقة بمجال تخصصه ومتابع لكل ما يجدّ على الساحة العلمية من أبحاث ودراسات ومؤلفات تضيف جديداً يفيده في الإجابة عن كثير من التساؤلات التي كان يبحث لها عن إجابة. وعلى ذلك فإن الاستاذ الجامعي الذي يتميز عن معلم المدرسة من ناحية كونه صانعاً للمعرفة يكون دوره دور المشرف أو المراقب أو الموجه الذي يرسم الخطط ويضع المؤشرات التي ترقب سير حركة البحث والقراءة لدى الطلاب، وبغير ذلك لن يتحقق تعليم جامعي ناجح يسهم إسهاماً فاعلاً في عملية البناء والتطور ذلك أن الجامعة هي الركيزة الرئيسية لقيام نهضة علمية وثقافية في البلاد،وماركب الإنسان المجهول وبلغ مابلغ من التطور والتقدم إلا من خلال الجامعات!! ففي هذه الأيام قد تتعالى أصوات تدعو أساتذة الجامعات للابتعاد عن الأساليب التقليدية في التدريس، التي تعتمد على الحفظ والتلقين والتخلي عن «الملزمة» أو الكتاب المقرر أو «الأمالي» وتدعوهم إلى الأخذ بالأساليب التعليمية الحديثة التي تعمل بها الجامعات المتقدمة أو الرائدة في الوطن العربي - على الأقل - وغير ذلك من الأصوات والمقالات والدراسات والتقارير التي تضع المقترحات وتصف الحلول وتبين سبل التحديث. والحقيقة أن جزءاً كبيراً من هذه التناولات المطالبة كان ينبغي توجيهه نحو توعية الطالب الجامعي وتبصرته بحقيقة دوره الذي يجب أن يتمثله بحيث يعرف ماهية المطلوب منه بوصفه طالباً تسخر لأجله إمكانيات متنوعة المصادر سواء من الأسرة أم من الجامعة، فهو لذلك يجب أن يعرف أن «ملزمة» الاستاذ أو وريْقَاتِه ليست سوى مفاتيح توصله إلى حقل واسع وخصبٍ يتجول فيه بحرية.. يختلق المشكلات ويبحث لها عن حلول .. وأثناء ذلك يلتزم منهجاً علمياً وخطوات مدروسة.. ولأنه سيكون غريباً في هذا الحقل وغير متمرس فيه فقد تواجهه بعض الإشكاليات وبالتالي يتوجب عليه الالتزام بالنصائح التي يرسمها له الاستاذ كونه قد خبر هذا المجال وتمرس فيه. بيد أن مثل هذا الإجراء قد تقف أمامه عقبات أو معوقات يتجاذبها قصور في نظرة المجتمع للطالب الجامعي من جهة وشحة في المراجع والدراسات المتخصصة وكثافة الطلاب من جهة أخرى. أولاً: الرؤية المجتمعية القاصرة كثير من الأساتذة الجامعيين لاسيما الأشقاء يعترفون أن الطالب الجامعي اليمني يتميز عن غيره في كونه واقعاً في بيئة يحتاج في ظلها إلى تعامل خاص، فهو طالب وعامل في آن واحد بل إن أغلب الطلاب يقضون الفترة المسائية في أعمال أخرى تعزلهم عن جو القراءة المتعمقة وإذا ما جئنا - نحن - للبحث عن سبب لهذه المشكلة سنجد أن قسوة الظروف المعيشية تقف وراء ذلك علاوة على عدم إيمان المجتمع بضرورة تفّرغ الطالب الجامعي للقراءة وكسب المعرفة وهذا المفهوم تصنعه رؤية مجتمعية قاصرة لاتعترف بشيء من مظاهر التعلم في الجامعة سوى حمل دفتر واحد عند كل صباح والعودة عند زوال الشمس. أما الذهاب إلي المكتبة والتجول بين رفوفها أو الجلوس إلى كتاب تقرأه فهذا - وفق تلك الرؤية - ضياع للوقت وهدر للطاقة. والمتأمل في واقع إعلامنا يجد أنه قد أغفل هذه القضية فحري به أن يسهم في وضع المجتمع أمام رؤية صحيحة تقيس المعرفة بقياسها الحقيقي من خلال إعداد البرامج والفعاليات والمواقف والمشاهد التي تبث الوعي بأهمية دعم الطالب في الجامعة معنوياً ومادياً وتسهيل الصعاب وإزالة العقبات أمامه. ثانياً: كثافة الطلاب في الجامعة: قد يبلغ أحياناً عدد الطلاب في قسم واحد من أقسام الكلية الواحدة وفي مستوى واحد 800 طالب وقد يزيدون، وبخاصة في كليات العلوم الإنسانية كالتربية والحقوق والعلوم الإدارية. وفي مثل هذه الحالة تخصص قاعة كبيرة تحتوي هذا العدد الكبير في وقت واحد لمحاضرة ما وهذا يعني أن الأستاذ المحاضر لن يجد وسيلة سوى اعتماد اسلوب المحاضرة والإلقاء وحده، وإذا ما مزجه بأسلوب المناقشة والحوار فلن يستطيع تغطية النقاش وتبادل الحوار وأخذ الآراء من الجميع، هذا إذا لم تتحول القاعة إلى سوق عظيم يتعذر معه إتمام المحاضرة. ومن هنا يمكن القول: إن الجامعات إذا كانت قد تبنت في ذلك سياسة قبول من مراميها نشر الوعي والتثقيف والإسهام في خلق جيل متعلم بشهادات علمية فإنه يتوجب عليها إعادة النظر في سياسة توزيع الطلاب في القاعات الدراسية وعمليات إعداد الجداول ، فطريقة جمع 500 طالب في قاعة واحدة طريقة غير منصفة وتتنافى مع أساليب التعلم الحديثة التي وصلت إلى حدود التعليم المبرمج والتعلم بالتراسل عبر المواقع الالكترونية. بل إنه قد ثبت لدينا بحكم دراستنا الجامعية وملامستنا لهذا الواقع الجامعي ومن خلال التقصي والاستطلاع لما حصل عليه بعض الطلاب من درجات في هذه المواد التي يجمع فيها أكثر من قسم أمام محاضر واحد، حيث تبين أن الطلاب يشكون من تدنٍ في درجاتهم لهذه المواد، فبعض الأساتذة لايدققون في عملية التصحيح، في ظل كل هذا العدد والبعض الآخر يعتمدون على من يساعدهم في نقل الدرجات وبالتالي قد يحدث نوع من أخطاء القياس وعشوائية التصحيح. ثالثا: شحة الكتب والدراسات المتخصصة: قديماً قال الفراعنة « المكتبة طبّ النفوس» بل إن من يقرأ ماكتبه العالم والمؤرخ والمحقق عبدالله الحبشي في مؤلفه: (الكتاب في الحضارة الإسلامية) وتأمل فيما قدمه الكتاب لهذه الأمة سيجد - صوابية القول - إن الكتاب هو عمود الحضارة الإسلامية وركنها الشديد. وكان الكتاب في بلادنا بعد قيام الثورة اليمنية المباركة التي كسرت حاجز العزلة عن العالم قد شهد خطوات إيجابية ونقلة نوعية في سبيل توفيره وطباعته لاسيما بعد تنامي أعداد الدارسين والباحثين في كل تخصص وتكاثر الجامعات الحكومية والأهلية والمعاهد والكليات المختلفة. ولأن الكتاب أداة للمعرفة سهلة وحية كل يوم في توالد وتنام يعرض كل جديد أمام القاريء أو الباحث فإن مسألة الاهتمام به ومتابعتهً من قبل الجامعات أمر ضروري لضمان تعليم جامعي حديث مواكب لأهم التطورات التي تجدّ في العالم. إلاْ أن الواقع أن الطالب الجامعي لازالت تقف أمامه مشكلة غياب الكتاب أو المرجع وإن وجد فهو على ندرة.. وهو الأمر الذي يقف دون أدائه لدوره الذي يمنحه صفة الباحث أو الدارس.ويمكن القول إن تلك المشكلة تقف وراءها الأسباب التالية: 1 - افتقار مكتبة الجامعة المركزية للكتب والمراجع والدراسات والأبحاث والمجلات المحكمة والدورية في حين أن أكثر الجامعات العربية قد تغلبت على مثل هذه المشكلة منذ زمن. 2 - قد تتوفر في المكتبات العامة للمؤسسات الثقافية والعلمية الأهلية بعض المصادر والمراجع إلا أنها لاتستطيع بمفردها التعمق في احتواء أغلب الدراسات والأبحاث الجارية والمراجع الحديثة فما فيها ليس سوى ما استطاعت اقتناءه من بعض المعارض السنوية أو جادت به بعض الشخصيات العلمية أو المؤسسات الصديقة في الخارج ، وأحسب أن الزائر لتلك المكتبات سيجد أن تلك الكتب - ربما على وفرتها - لم تستطع تغطية حاجة الباحثين في مختلف المجالات والعلوم. -3 المكتبات التجارية كعادتها تعتمد أسلوباً سيولوجيا في توفير الكتب فهي تعمل جاهدة من أجل توفير مايتطلبه القارىء العادي غير المتخصص أو مايحظى بالقبول لدى الأطراف الدينية، فأنت تجد فيها الكتب الدينية المختلفة بالإضافة إلى مختارات متنوعة من أشعار الشعراء وكلام الأدباء وماقيل في الحب والغزل والحنين وغير ذلك، وكتب عن المراهقة وعن الحياة الزوجية وليلة الزفاف وأسرار المرأة وهمومها وكيف تحافظ على جمالها وأسرار الرجل وهمومه وغير ذلك من العناوين المثيرة التي تستميل الكثير من الشباب والشابات. ثم إن الاستاذ الجامعي الذي يأتي من دولة شقيقة أو صديقة ليس ملزماً بإحضار كل كتبه متى أراد الرحيل إلينا ومثله الاستاذ اليمني فليس مفروضاً عليه أن يوزع مكتبته بين تلاميذه وهو في حاجة إليها كونه باحثاً - أيضاً - ومطالباً بمتابعة وتقديم الأبحاث العلمية.. وإذا كان هناك من يسمح بتصويرها فهل يطيق الكل تصوير كتاب ما بضعف قيمته الحقيقية!! إذن نحن أمام قضية مهمة يجب أن يتنبه لها الجميع لاسيما الجهات المسئولة عن التعليم في بلادنا وأولها الجامعات فعدم توفير الكتاب وازدحام الطلاب في القاعات وعدم تجاوب المجتمع مع همومهم ومشكلاتهم يجعل منهم عقولاً تدور في حلقة مفرغة فيجمد التفكير وتجدب القرائح .. وماقيمة أن يخرج الطالب بعد أربع سنين قضاها في الجامعة حاملاً شهادة الليسانس أو البكالوريوس وهو لايمتلك مهارة البحث ونقد المقروء وطريقة التعامل مع المصادر والمراجع. وأنا أرى أن مانقرأه بين الفينة والأخرى في الصحف والملحقات الثقافية والعلمية التي تندد باحتكار أساتذة الجامعة لقراءة مفردات المقرر من «الملزمة» التي يضعها الاستاذ بين يدي طلابه أرى أن جزءاً كبيراً من ذلك يرجع إلى إدراك الاستاذ لقضية شحة المراجع والمصادر وهو الأمر الذي يوجب عليه وضع الطلاب أمام مرجع واحد وإهماله مسألة البحث والقراءة المتعددة أو الحرة. إن كلامي هذا لايعني بالضرورة أن جامعاتنا تخلو من الكتب أو أنها ليست إلا جامعات تلقن جهلاً كما تذهب بعض الآراء الهدامة لكن مانريد التأكيد عليه هو أهمية أن تتسارع الخطى وتتكاثف الجهود وتتآزر الهمم من أجل إغناء مكتباتنا الجامعية بالمراجع والدراسات والأبحاث والمجلات والدوريات التي تضع الطالب أمام معرفة ثرية تستثيره للقراءة والاطلاع وتوقظ فيه القدرة على أخذ المعرفة أخذاً صحيحاً وتخلق فيه وعياً أكاديمياً يكون بوابته إلى عالم الجدارة والتفوق. فنحن نعرف أن مؤسس علم اللغة الحديث العالم السويسري فرديناند دي سوسير حصل على الدكتوراه وهو في العشرين من عمره، وما كان له أن يصنع ذلك لولا توفر جوّ علمي ومادة معرفية كفلهما له مجتمع يؤمن بأهمية العلم ودوره في رقي الإنسان وتحضره