يعتقد الحلاج أن انتفاء الذات أشبه ما يكون بانتفاء اليرقة إيذاناً ببداية حياة جدية هي حياة الفراشة، فاليرقة شرهة نهمة تقضي دورة حياتها في التهام الأكل كما لو أنها خلقت لتأكل فقط، فإذا ما بلغت درجة معينة من التشبع واستهلكت عمرها الافتراضي تشرنقت نافية وجودها الفيزيائي، ومبشرة بميلاد خلق جديد يختلف جذرياً عن اليرقة الشرهة النهمة، فالفراشة التي جاءت من تضاعيف حيوات اليرقة المغايرة تماماً لسلفها تثبت أن الحياة مراتب ودرجات، وأن أنساقها قابليات للتغيير والتغير، وأن المشيئة اقتضت أن يتحول النهم الأكول إلى مقل زاهد، والكبير إلى صغير، والزاحف إلى طائر، وفي تلك المتواليات لطائف كثيرة وإشارات جليلة يعلمها كل حصيف لبيب. كثير من الناس يشبهون اليرقات في سلوكهم الإفتراسي، وحبهم للملذات، وانتظام حياتهم عبر الغريزة المجردة، وهؤلاء ينتشرون بين ظهرانينا كما تنتشر اليرقات في الحقول، والقليل، القليل منهم يمتلكون طبائع الفراشة، وهؤلاء نفر من الناس يرون أبعد مما يراه الزاحفون على بطونهم، المستسلمون لغرائزهم، كما أنهم يتميزون بجمال الشكل والمضمون، وينشرون أريجاً جميلاً أينما حلوا وارتحلوا، ويباشرون البهاء صباح مساء، فيما يحترقون من أجل السمو والنبل. فتشوا بين ظهرانيكم وستجدون أشباه اليرقات، وقلة قليلة من الناس الذين كالفراشات، وقد أبحر المحلقون مع هذه الحقيقة فقرنوا الرائي الجميل بعوالم الطير وتحليقاتهم كما رأينا عند فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير» حيث نستقرئ علاقة الطيران بالوصل إلى الهدف النبيل، وكيف أن الطيارين المحلقين يمرون عبر مفازات الجوع والخوف والفزع والتعب حتى يصلوا إلى مبتغاهم، وكيف أنهم فيما يتنكبون مشقة التحليق يتحررون من أدران الروح والجسد، وعند الإمام محمد بن محمد حامد الغزالي تنويع آخر في رسالته بعنوان “رسالة الطير”، والحال بالنسبة للحلاج الذي كتب الحلاج في طواسينه عن الفراشة، أيضاً أبو يزيد البسطامي الشاطح الذي افترض أنه طائر بجناحين يحملان يمتدان في الزمان والمكان ويحلقان في مرابع المعاني، وصولاً إلى الذات في أسمى درجات طهرها ونقائها.