يعرف العصفور كيف يطير، لكنه لا يعرف من أين بدأ ومن أين ينتهي! ينساب العصفور مع الهواء محلقاً بأجنحة من أثير، وبرشاقة من ماء ونور. العصفور يتداعى مع منازل الهواء وتدرجات الأنواء ومعاني الأسماء.. يعرف تماماً كيف يعزف موسيقى رشاقته في بحار من رذاذ الأشياء لكنه وكما أسلفنا لا ينطلق من قاعدة ولا يذهب إلى هدف كأنه يختزن الزمان والمكان بفعل التحليق المجرد، بل كأنه يتمثل الدهر بوصفه قدس أقداس الأبدية.. هنالك، حيث الغريزة والديمومة والعبور والترحل والسفر أصل لحياة تتصل بالفناء، ولفناء يمهد لحيوات جديدة.. العصفور لا علاقة له بالزمان والمكان إلا بقدر ارتهانهما إلى ناموس وجوده الأشمل، فيما الإنسان يتنكّب مشقة القياس للزمان ومحاصرة المكان متناسياً أنه نقطة في دهور التحول وما بعدهما.. يشقى الإنسان بعقله، ويحتار بمرئياته المحدودة، ويتكسر بأصواته المبهمة، ولا يتمتع بمزايا الطائر المحلق. حاول فريد الدين العطار أن يتقرّى منطق الطير، ودأب السهروردي على مناجزة لغة الطير، وحلق الغزالي مع طيور أحلامه، وتمنّى البسطامي أن يكون طائراً بجناحين من الديمومة والأبدية وجسم من السببية، وحاول أن يطير في هواء الكيفية مائة ألف ألف عام لكنه انتفى تماماً كما انتفت طيور العطار وتماماً كما تداعت كلمات الحلاج: اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي فحياتي في مماتي ومماتي في حياتي أنا عندي محو ذاتي من أجلّ المكرمات. [email protected]