ينظر إلى الحريات الممنوحة للأفراد والجماعات على أنها روح الديمقراطية التي تبنى على أساسها الخيارات الوطنية، غير أن هذه الحريات حتى وإن كانت خاضعة لأطر قانونية تنظم حدودها تبقى عاجزة عن ترجمة الطموح الجماهيري الشعبي، إذا ما تجاهلت تغليف فعلها بأطر أخلاقية أيضاً. إن الأشكالية التي تواجهها ديمقراطية البلدان النامية هي ممارسة القوى السياسية لحقوقها، وحرياتها الديمقراطية ضمن أطر حزبية لاتختلف كثيراً عن العصبية القبلية التي عرفها العصر الجاهلي، والتي عادة ما تُرجع الخيار والقرار إلى حسابات أنانية تمنح حصانة شبه مطلقة للولاءات الضيقة التي تقع تحت مسمياتها القبلية.. وهو الأمر الذي جرّد تلك السلوكيات من القيم الأخلاقية، وجعلها في مقدمة ما حاربه الإسلام. إن هذا التناقض العجيب بين فلسفة العصر وبين الثقافة التي تمارسها بعض القوى السياسية أوقعنا في اليمن بمنزلقات القلق المزمن من خروج الديمقراطية عن مساراتها السلمية والتنمية، وتحولها إلى مصدر إثارة للقلاقل والفتن، والفوضى السياسية التي من شأنها إعاقة أية برامج تنموية، أو جرّ الوطن إلى تحديات ترتبط بسيادته الوطنية. فعندما تتحول المشاركة الانتخابية إلى «معركة» ومشاريع ابتزازية، وصفقة مساومات على وحدة الوطن فإنها بلا شك تنسف جدوى التحول للخيارات الديمقراطية، بل وتطمس كل المعاني الفلسفية التي قامت على أساسها الديمقراطية.. وعندما يحدث كل ذلك في وقت يواجه فيه الوطن تحديات خطيرة، كالإرهاب، أو القرصنة البحرية، والمؤامرة الدولية لتدويل البحر الأحمر، فإن الديمقراطية حينئذ تكون قد تجردت عن كامل قيمها الأخلاقية، ولم يعد من عنوان يحتوي ممارستها غير «المؤامرة» و«الخيانة الوطنية»، مهما كانت قوة المبررات والذرائع التي تضعها تلك القوى لتفسير ممارساتها.. ! أمس أعلنت أحزاب اللقاء المشترك مقاطعتها للانتخابات البرلمانية القادمة، ووزعت بياناً على كل فروع أحزابها وأنصارها تحثهم فيه على تحريض الشارع اليمني بمقاطعة الانتخابات، متنكرة لوجود أي ديمقراطية في اليمن، وفاتها ان تتذكر بأن إعلان المقاطعة هو أيضاً ممارسة ديمقراطية، تدل على سعة أفق الحريات الممنوحة للقوى السياسية اليمنية. إعلان المشترك مقاطعة الانتخابات يعني انه اختار نقيض الديمقراطية أي العنف بدل الحوار، والانقلاب الدموي على السلطة بدل التغيير الديمقراطي السلمي عبر صناديق الاقتراع.. والاخطر هو انه بذلك يعلن التمرد على دستور الوحدة الذي شرع الممارسات الانتخابية لتداول السلطة، ولتمثيل الجماهير.. وهو تطور خطير جداً لكونه يضع السلطة أمام أحد خيارين: أولهما انتهاك القوانين وضرب الدستور عرض الحائط والرضوخ إلى طاولة مفاوضات خارج القانون والدستور، ومساومة هذه الأحزاب على خزينة الدولة قبل المقاعد البرلمانية على أساس المحاصصة. أما الخيار الثاني فهو أن تقدم السلطة على اتخاذ قرار تجميد الديمقراطية وقانون الأحزاب وإعلان الاحكام العرفية للحيلولة دون تمادي هذه القوى على السيادة الوطنية.. باعتبارها وضعت نفسها موضع الخارج على القانون.. والتصدي لأية محاولات لإشعال الحرائق بالوطن.. وإعادته إلى القرون الوسطى.. خاصة في ظل رفع هذه الأحزاب لشعارات العودة للتشطير.. ربما كلا الخيارين معقدان، إلا أنهما يمثلان المصير الذي يحاول المشترك جر الوطن إليه !