عندما دشناّ هذه المحاولة على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية، كانت الرغبة تحدونا في توضيح بعض جوانب الصورة غير المنظورة لطرفي المشهد السياسي اليمني، وتمنينا أن تثير النقاط الواردة فيها حواراً ونقاشاً علمياً وعقلانياً بين الأطراف السياسية المتصارعة، بما يسهم في تقريب وجهات النظر، وتقليص مساحات الخلاف الشاسعة.وتجسير الفجوة الكبيرة في نظرة الطرفين إلى الاستحقاق الانتخابي القادم.. وقد أكدنا بأن الواقع ربما يختلف بشكل جذري عن التنظير السياسي، وقد يتجاوزه، وهذا ما حدث عقب إعلان الاتفاق بين الجانبين من بين قضايا عديدة أخرى غير معلنة على تأجيل الاستحقاق الانتخابي لمدة عامين، وعلى أن تطبق القائمة النسبية في انتخاب ثلث أعضاء مجلس النواب القادم، وهو الموضوع الذي ربما يكون عنواناً لتناولة قادمة إن شاء الله تعالى. وتأتي هذه النقاط استكمالاً لتناولة الاسبوع الماضي، وقد كنا خصصناها لتقدير النظم الانتخابية، ومنها على وجه الخصوص نظام الانتخاب عبر التمثيل النسبي الذي تحدثنا عنه تفصيلياً في تناولتنا السابقة، وقد تركنا كثيراً من النقاط التي تضمنتها هذه التناولة دون تعديل أو تبديل، إلا ما يدخل في باب الحديث عن الانتخاب القادم، الذي بات مؤكداً أنه تأجل إلى عام 2011م بعد أن تقدم أكثر من ثلثي أعضاء المجلس الحالي، بطلب تمديد فترة المجلس لمدة عامين. تقدير نظام الانتخاب بالتمثيل النسبي يمتاز نظام الانتخاب بالأغلبية المطبق في بلادنا حالياً بأنه نظام بسيط وواضح، ويتلاءم مع طبيعة الهيئة الانتخابية اليمنية ذات المستوى العالي من الأمية الثقافية وربما السياسية «بمعنى عدم معرفة كثير من الهيئة الناخبة لمحتوى برامج الأحزاب السياسية المتنافسة، وهي ركيزة من ركائز اختيار نظام التمثيل النسبي». كما أن نظام الانتخاب بالأغلبية النسبية أو المطلقة، يؤدي إلى قيام أغلبية برلمانية قوية، بيد أنه قد يؤدي إلى ظلم الأقليات والأحزاب السياسية الصغيرة بشدة لأنه قد يحرمها من التمثيل داخل المجلس النيابي. مزايا التمثيل النسبي هناك اعتقاد بأن الأخذ بالقائمة وبنظام التمثيل النسبي يحقق نظرياً على الأقل عدداً من المزايا، تتلخص في التالي: 1 إنه يحقق العدالة في توزيع أصوات الناخبين، عن طريق إعطاء كل حزب عدداً من المقاعد يتناسب مع عدد الأصوات الحقيقية التي حصل عليها، بحيث يكون لكل حزب وجود ودور داخل الهيئة البرلمانية، يتناسب مع عدد الأصوات التي حصل عليها. 2 إنه يعد وسيلة لتحقيق النظام الديمقراطي النيابي الصحيح، الذي يكون ترجمة صادقة لرغبات الشعب في اختيار من ينوب عنه. 3 إنه يؤدي إلى قيام أغلبية برلمانية حقيقية تستند إلى إرادة شعبية، وليست الأغلبية الصورية التي تنتج عن الأخذ بنظام الانتخاب بالأغلبية النسبية. 4 يخلق نظام التمثيل النسبي معارضة قوية ذات صوت مسموع في البرلمان، مما يجعل الحكومة تلتزم بالموضوعية والدقة في ممارستها لسلطاتها، وتعمل بحرص ويقظة دائمين لتحقيق المصلحة العامة. 5 يحافظ التمثيل النسبي على وجود الأحزاب الصغيرة، ويصون استقلالها في مواجهة الأحزاب الكبيرة، مما يشجع مؤيديها الحرص على الإدلاء بأصواتهم في كل انتخابات، لأنهم يعلمون أن لها ثقلاً في العملية الانتخابية وفي حصول أحزابهم على عدد أكبر من المقاعد على عكس نظام الأغلبية النسبية الذي يؤدي إلى تقاعس أنصار الأحزاب الصغيرة عن الإدلاء بأصواتهم في صناديق الانتخاب، وربما إلى تناقص المشاركة الشعبية في الانتخابات، لأنهم يعلمون أنها ستضيع هباءً ولن تؤثر في نتيجة الانتخاب وينجم عن ذلك التجاء الأحزاب الصغيرة إلى الاندماج مع الأحزاب الكبيرة حتى تتمكن من الفوز بعدد من المقاعد البرلمانية، وربما أدى إلى ذوبانها داخل كيان الأحزاب الكبيرة. عيوب التمثيل النسبي واجه نظام التمثيل النسبي عند التطبيق الواقعي انتقادات شديدة منها: 1 إنه نظام يتسم بالتعقيد والصعوبة في التطبيق، وخاصة في حالة عدم الاتفاق على طريقة توزيع المقاعد على قوائم الأحزاب المتنافسة، وعلى تقسيم الدوائر الانتخابية، وتحديد القاسم الانتخابي الذي يتم بموجبه توزيع المقاعد على تلك القوائم «أي عدد الأصوات التي تحدد لكل مقعد نيابي» وربما أثارت هذه النقاط مستقبلاً لا قدر الله خلافاً جديداً بين الأحزاب السياسية اليمنية إن لم تبادر منذ الآن إلى الاتفاق على كل هذه الأمور. 2 إنه نظام غامض لدى جمهور الناخبين، ولدى كثيرين من العاملين في لجان الفرز وحساب أصوات الناخبين، خاصة ما يتعلق بطريقة توزيع المقاعد واحتساب النسب وتحديد الفائزين من قوائم الأحزاب المتنافسة، مما قد يؤدي إلى التلاعب في نتائج الانتخابات وتزويرها. 3 ومن شأن هذا النظام كذلك، وهذا أسوأ ما فيه، جعل بعض النواب وخاصة من القيادات الحزبية غير قابلين للعزل مدى الحياة ويتمتعون بعضوية دائمة في البرلمان، بصرف النظر عما يمكن أن يطرأ على شعبية الحزب من هبوط أو تراجع؛ فيكفي أن يوضع بعض المرشحين في مقدمة قائمة المرشحين من الحزب، ليصبح فوزهم مؤكداً ودخولهم إلى المجلس النيابي، وفي الغالب يكون قادة الحزب السياسي هم الأشخاص الذين يحتلون تلك المكانة المتقدمة في قوائم الأحزاب السياسية المتنافسة على مقاعد البرلمان. 4 كما أن نظام التمثيل النسبي يؤدي إلى توالد وكثرة عدد الأحزاب السياسية داخل البرلمان، وقد تنشأ أحزاب لا تستند إلى قاعدة شعبية ودون مبادئ أو برامج سياسية حقيقية، خاصة في حالة استمرار ترشح المستقلين في الانتخابات واتفاقهم على قائمة موحدة من الأسماء الوطنية ذات السجل النظيف من آفة الفساد وأخواتها، كما أن جميع الأحزاب ستدخل إلى البرلمان وستحتل عدداً من المقاعد بحسب نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات، وهذا يؤدي إلى تشتت مقاعد البرلمان بين الأحزاب السياسية الصغيرة والكبيرة وقوائم المستقلين. 5 أما أخطر عيوب التمثيل النسبي فيتمثل في صعوبة قيام أغلبية قوية أو متجانسة، وبالتالي صعوبة تشكيل حكومة قوية، واضطرار الحزب أو الأحزاب السياسية الفائزة بأكبر عدد من المقاعد إلى التحالف أو الائتلاف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة، مما يؤدي إلى دورية حدوث الأزمات السياسية والوزارية وزعزعة الاستقرار السياسي في الدولة، وسهولة إسقاط الحكومة بتخلي بعض أطراف التحالف أو الائتلاف عن تأييدها، أو الانسحاب منها، وهو الأمر الذي عانت منه كثير من الدول التي أخذت بهذا النظام الانتخابي، وأدى إلى إسقاط عشرات الحكومات في كثير من الدول التي أخذت بنظام التمثيل خلال سنوات قليلة، في إيطاليا، وفي غيرها من البلدان التي أخذت بهذا النموذج من النظم الانتخابية. أخيراً، ربما يكون نظام التمثيل النسبي نظرياً هو الأقرب إلى تحقيق المبدأ الديمقراطي، وإلى تحقيق العدالة والمساواة في ممارسة حق الانتخاب للمواطنين، وتوزيع أصوات الناخبين بين الأحزاب السياسية المتنافسة، لكنه واقعياً قد لا يحقق الاعتبار الثاني الذي أشرنا إليه في تناولة سابقة، والخاص بتحقيق الاستقرار السياسي الوطني والحكومي، نظراً لصعوبة قيام أغلبية قوية تتولى الحكم في معظم الأحيان، وهذا ما يحققه الأخذ بنظام الأغلبية، وربما لو تم تعديل نظام الأغلبية النسبية إلى الأغلبية المطلقة، وفي حال عدم توفرها يصار إلى إجراء دورة ثانية لإعلان الفائز، سيكون هذا النظام أكثر تعبيراً عن إرادة الناخبين. مع كل ذلك، ليس بمقدور أحد أن يجزم بأفضلية أحد النظم الانتخابية على الآخر بصفة مطلقة، لأن تفضيل أحدها على الآخر مرهون كما أسلفنا بطبيعة الظروف السياسية الخاصة بكل دولة، وبمدى النجاح الذي يحققه هذا النظام عند التطبيق في الواقع العملي.. وفي جميع الأحوال؛ فإن تعديل النظم الانتخابية واختيار النظام المناسب لمجتمع ما ينبغي أن يأتي ثمرة لتقييم واقعي لإيجابيات وسلبيات كل نظام في التطبيق الواقعي، ولن يحدث هذا دون حوار سياسي متواصل بين كافة مكونات المشهد السياسي اليمني، دون إقصاء أو تهميش لأي طرف مهما بدا صغيراً أو غير مؤثر، يتمخص عنه توافق تلك الأطراف والقوى السياسية على مختلف جوانب ممارسة العملية السياسية، دون الخروج عن النص القانوني عبر ممارسة الضغوط والأعمال غير القانونية، ولا يمكن أن يجري الحوار دون اقتناع مختلف الأطراف بجدوى وجدية هذا الحوار، كما لا يمكن اقتناع جميع الأطراف بجدوى وجدية هذا الحوار دون وجود ثقة متبادلة بين تلك الأطراف، ولا نتخيل قيام تلك الثقة في ظل الاتهام المتبادل، والحملات الإعلامية التي يشنها كل طرف ضد الآخر. ولذا فقد كنا نعتقد، ومازلنا أن أولى خطوات الحل لخلاف سياسي طال مداه، وتطاول في مده وجزره على كل شيء، هو قطع الحملات الدعائية المتبادلة عبر المنابر الصحفية والإعلامية للطرفين، وحرص جميع أطراف المشهد السياسي اليمني على الجلوس إلى طاولة الحوار لبحث كافة القضايا ذات الأولوية وطنياً، وتحديد نقاط الخلاف والالتقاء والاتفاق على تحديد جدول زمني لأجندة الإصلاح الوطني، ومناقشة كافة النقاط القانونية التي تضمنها الاتفاق لتحديد التعديلات القانونية والدستورية التي يجب وضعها لاستيعاب كافة القضايا محل الخلاف، وصولاً إلى اجراء الاستحقاق الانتخابي القادم في 2011م إن شاء الله تعالى. لا يتعلق الأمر برغبة شخصية طارئة في التنظير أو التحليق عالياً في عالم المثل والأخلاقيات، وإن كنا لا نرى في هذا عيباً أو نقيصة يرمى بها إنسان، لكنها رغبة صادقة لمواطن يمني في تجسير الفجوة بين أطراف الخلاف السياسي، وتضييق مساحة الخلاف بينها، وكل أمله شأن كثيرين من أبناء هذه الأمة أن يرى وحدة الصف الوطني وقد تحققت، ومساحات الخلافات وقد تبددت وحل محلها الحوار، ومظاهر العنف السياسي والثقافي وقد حلت محلها البدائل السلمية والحلول السياسية للخلافات السياسية.. علّ القادم يكون أفضل مما كان، وكي لا يبقى شعارنا «ليس في الإمكان أحسن مما كان» وحتى لا نندم على ما فات ساعة لا ينفع ندم.. نعتقد أن إرادة الفعل الوطنية الجماعية الصادقة والنوايا الحسنة هي التي خلقت ما كان، ووحدها كفيلة بتذليل كل المصاعب لتخلق ما هو آت، الذي نأمله جميعاً أنه «سيكون أحسن مما كان».