قبل ثلاثة عقود تقريباً كانت فلسطين هي النكبة اليتيمة التي تتصدر أوجاعنا العربية.. ثم تعددت نكباتنا، وتفتقت جراحاتنا، إلا أننا مازلنا اليوم نحمل فلسطين بكل جوارحنا ونجعلها في الصدارة كما لو أن ثمة سراً يجعلها «أم النكبات». بعد 61 عاماً من عمر النكبة نكتشف أن الأمة لم تتعلم الدرس بعد، وأنها من شتات إلى شتات، والموقف يزداد لؤماً، والمحتل يمعن استبداداً، ويتعدد بوجوهه، وبغداد تتضم إلى عزاء القدس، فيما بيروت تترقب اللحاق بهما، ودمشق تحت التهديد، والخرطوم تتقاذفها المشاريع الدولية، وفي كل عاصمة عربية كتائب من «الديمقراطيين الجدد» تحركها السفارات الأمريكية بالريموت الأخضر «الدولار». كان بالإمكان أن تصبح نكبة فلسطين درساً للأمة، أو حتى ينتهي عزاؤنا السنوي الذي نقيمه بالمناسبة في ذكراها العشرين أو الثلاثين أو الأربعين ولا يستمر حتى الستين، لولا أن مشائخنا - سامحهم الله - سنوا حرابهم ضد «عصبيتنا القومية»، وأفتوا أن فكرنا القومي مؤامرة لسلخ جسد الأمة الإسلامية إلى قوميات، فوجدنا أنفسنا غارقين في فتننا الداخلية، نتربص بكل قوة قومية لنجتث رؤوسها، ونطيح بزعاماتها. بعد واحد ستين عاماً من نكبة فلسطين نكتشف أن «اليهود والنصارى» - الذين لم تكن صلاة مشائخنا تكتمل إلا برفع الدعاء بفنائهم - يخوضون أشرس حروبهم التاريخية ضد المعاقل القومية وليس الإسلامية، كما يعتقد البعض، لأنهم بعد ثلاثة عقود على النكبة كان الإسلاميون أول المهرولين إلى المعسكرات الأمريكية للانضمام إلى الحرب ضد السوفيت، وليس لإخراج اليهود الصهاينة من فلسطين. واليوم هم ليسوا بعيدين عن ذلك الموقف، بل يقفون على أبواب السفارات الأمريكية بفتوى ديمقراطية، ترفع الدعاء من فوق المنابر لسادن «البيت الأبيض»، وتحفظ التلاميذ أبجديات ألف باء «الديمقراطية الأمريكية»، وتستبدل دور تحفيظ القرآن بمنظمات مدنية تلقّن الإعلام مفردات البيانات والتقارير الغربية، وما إن تسمعهم يهتفون : «خيبر خيبر يايهود، جيش محمد سوف يعود»، حتى يأتيك النبأ بأن ألف مسلم سقط شهيداً بمفخخة «إسلامية». إن الخطأ التاريخي الذي عصف بكل الأصقاع العربية، وجرها إلى نكبات متتالية كان بفصل الدين عن العروبة، والتنكر للقومية كقاسم توحد، يعود إليه الفضل في اندلاع مختلف الثورات التحررية العربية التي قادت أوطاننا إلى الاستقلال، في الوقت الذي لم يسجل التاريخ أن «حركة إسلامية» حررت بلداً عربياً من نير مستعمر أجنبي، طالما هي تقف بموضع مناوئ للقومية. للأسف أننا مازلنا لانعترف بأن احتلال فلسطين، والإعلان عن «إسرائيل» كان بمثابة أول بادرة خطيرة بإقامة «دولة دينية» في المنطقة تسعى لاكتساب أسباب بقائها من خلق صفة قومية لنفسها تمثلت بإعلان «دولة إسرائيل» ومن هنا كان بوسع الأمة استلهام قيمة العنصر القومي في ديمومة أي كيان لكن ماحدث هو العكس، فقد تنصلت الكثير من بلدان الأمة عن هويتها والتزاماتها العربية، وقدمت مصالحها السياسية والاقتصادية «الأنانية» في ارتباطاتها الخارجية، لنجد أنفسنا في النهاية مطوقين بالقواعد العسكرية، والشركات الاحتكارية، وتنطلق من أراضينا الطائرات الأمريكية لكسر عنق أي نظام عربي عنيد يقيم في رأسه مشروعاً وحدوياً قومياً للأمة. لاشك أن التواطؤ والتآمر والخيانة هي نكبة العرب الكبرى التي صادرت ذلك الحماس الذي كانت تموج به شوارع الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وهي تهتف «بالروح.. بالدم... نفديك يافلسطين» وتمر على بغداد صارخة «لا استرليني ولا دولار.. لا رجعية ولا استعمار».. ولكن مع أننا لم نعد قادرين على تحريك شارع في حارة شعبية لأجل فلسطين إلا عندما يعتزم «مشائخنا» جمع التبرعات النقدية باسم فلسطين.. إلا أن حجم المعاناة التي قاساها الشعب الفلسطيني، وثقل الجراحات التي مازالت نازفة حتى اليوم، جعلا فلسطين هي الهوية الوحيدة التي اثبتت عروبتنا.. فعلى أرضها امتزجت الدماء العربية للمرة الأولى والأخيرة، فيما اليوم تمتزج دماء العرب مع الاحتلال في خندق واحد لقهر إرادة الأمة.. فيالنكبة أجيال هذه الأمة !!